21‏/12‏/2012

خطوات على طريق تحرير الوعي



يتعرض وعينا يوميا للتزيف والتوجيه والسيطرة من قبل كل ما يعرض في وسائل الإعلام من نشرات اخبارية وبرامج وأفلام ومسلسلات، هدفها تشكيل الوعي وترسيخ مفاهيم معينة لدى الناس، ويزرع في وعينا الكثير من الأفكار المادية الاستهلاكية، ويغرس فيه صورا وقوالب، وتستخدم كلمات لها دلالات معيننة في اذهاننا، وأحاول هنا أن استعرض كيف يتم تزييف وعينا وأن أضع بعض القواعد اللازمة لتحرير هذا الوعي.

القاعدة الأولى: تحطيم الأصنام، فنتيجة الجهل والتعصب قد ابتلينا بمرض "تصنيم" الأشخاص، وإضفاء القداسة على أفكارهم وتصرفاتهم، واختلاق المبررات والأسباب لها لو تعارضت مع العرف أو المبادئ أو الأخلاق، وهذا الأمر لا يقتصر على الأشخاص فقط، بل يمتد إلى بعض الحركات والجماعات والأحزاب.

 وتحطيم الأصنام يقصد به أمرين، الأول: هو نزع القداسة عن الأشخاص والتنظيمات، وتنازل مواقفهم وتصرفاتهم بموضوعية، فكل يخطئ ويصيب، وهناك قول منسوب للإمام مالك مضمونه أن "كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم" ، والثاني: تحرير الفكرة من الشخص أو التنظيم، وقد حذر الله تعالى في القرآن الكريم من فكرة ارتباط الفكرة بالشخص - حتى لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ"، وكذلك قال سيدنا أبي بكر رضي الله عنه عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فجع الناس: "من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وكذلك قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال"، وتحرير الفكرة من الأشخاص/ التنظيمات تعني انها لا تموت بموت الشخص/ التنظيم،  ولا تتأثر بأخطائهم أو انحرافهم عن طريق الحق.

هذا بالتأكيد لا ينفي وجود الرمز أو القدوة، والتي تتمتع بالاحترام والمصداقية بين الناس، وتشكل النخبة الفاعلة الحقيقية، التي تمثل البوصلة بالنسبة للرأي العام، ولكن علينا أن ندرك الفارق البسيط بين الاحترام والتقديس، وألا نتخطاه.

القاعدة الثانية: لا يوجد إعلام محايد، لا يوجد إعلام غير موجه. 

الإعلام قد تحول لسلعة أو منتج يستحق التسويق ، ومن يملك كبرى القنوات الشبكات الإعلامية هم من رجال الأعمال الذين يهتمون بالحفاظ على مصالحهم، التي تبدأ بالترويج لسلعهم ومنتجاتهم، مرورا بالحفاظ على الثقافة الاستهلاكية، وانتهاء بالحفاظ على مقومات الظام الرأسمالي العالمي، ما يتحكم في الإعلام هو توجهات ملاكه، والربح المتحقق نتيجة الاعلانات، وهذا يتطلب أمرين: الأول: الاهتمام بالأخبار "الساخنة" والموضوعات التي تحقق نسبة مشاهدة عالية، مثل أخبار المشاهير ونجوم الفن والكرة، والفضائح، وكل ما يمكن أن يجذب انتباه المشاهد ولو للحظات يساهم فيها بارتفاع نسبة المشاهدة وبالتالي ارتفاع أرباح الإعلانات، فكلما كان الموضوع المتناول غريبا وصادما ويثير الجدل كلما كان ذلك أفضل، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فتطور الأمر ليشمل شريحة جديدة من المشاهدين، فهناك مشاهدين يهتمون بالأخبار السياسية، وهناك من يهتمون بالبرامج الدينية، وهناك من يهتم ببرامج "الطبخ" و"الموضة"، لذلك كان من الواجب الاهتمام بجذب هؤلاء المشاهدين، مع عدم "الإخلال" بمبادئ الرأسمالية، فأصبحت البرامج الدينية ساحات للجدال والصراع بين الشيوخ والدعاة، وأًصبح البعض الآخر مكانا للفتاوى "الغريبة" و"الشاذة" و"الصادمة"، ولا مانع في بعض الأحيان من استضافة "نجوم" المشايخ والدعاة والوعاظ في حلقات "محترمة" تخلو من الإثارة من هذا النوع، ولكنها تمتلي برسائل الـ"SMS" والفواصل الإعلانية.

حتى البرامج التي من المفترض أنها تحمل "رسالة أخلاقية" وتتناول الجرائم وتحللها، أصبح كل همها أن تتناول الجرائم الغريبة وغير المعتادة، مثل شخص قام بتمزيق أسرة كاملة، أو شخص قتل أبوه أو أمه أو ابنه أو ابنته، أو آخر قام بقتل طفلة صغيرة بعد أن اعتدى عليها، كل هذا في اطار من "الإثارة"، هذا بالإضافة للبرامج الحوارية السياسية أو ما تسمى بالـ"talk show”، والتي هدفها بالأساس توجيه وعي الناس في اتجاه معين وتستخدم في ذلك كل الأساليب المتاحة التي سوف أفصلها في بقية المقال، برغم أنني كنت أنوي تخصيص موضوع منفصل لتحليل الخطاب الإعلامي، وكيف نفهمه، ولكني أجد أنه من الضروري التوقف عند هذه النقاط، مع ضرورة التوضيح أن الآتي هو اجتهاد شخصي نابع من الملاحظات اليومية.

كيف يزيف الاعلام الحقائق:
 
- التركيز على حدث صغير وخلق حالة من الزخم والجدل حوله، وأحيانا يكون التركيز على خبر أو معلومة على حساب معلومة أخرى، مثل الاهتمام بحدث فني أو سياسي أو حادث يموت فيه بضع أشخاص على حساب حدث أكبر له وقع وتأثير كبير، لأنه لا يخدم توجهات القائمين على الإعلام.

- قلب الحقائق عن طريق اظهار جزء من الصورة واخفاء الجزء الآخر، وتضخيم الجزء المراد اظهاره والتهويل من حجمه، وأهمال الجزء المراد اخفائه والتقليل من شأنه.

- تضييع الحقيقة عن طريق عرض الآراء المتناقضة بدعوى الرأي والرأي الآخر، فيصاب المتلقي بحالة من "التوهان"، عندها يكون جاهزا لتلقي "الكبسولة" اللازمة للسيطرة على وعيه.

- تمييع الثوابت والتركيز على نسبيتها، والتشكيك في كل مصادر المعلومات الأخرى، والتركيز على فكرة المصداقية واكتساب الثقة لدى المشاهد أو المستمع أو القارئ.

- تحطيم الرموز، وهذا يختلف بالتأكيد عن قاعدة "تحطيم الأصنام" التي ذكرتها في بداية المقال، فكل مجتمع به شخصيات عامة في كل المجالات وبعضهم يصلح كرمز أو كقدوة، أو كشخص معتبر يتمتع بالاحترام بين الناس، أو بعض الأشخاص الذين يتكلمون بلسان حال المواطنين البسطاء ولهم قدر من الشعبية، فكل هؤلاء يجب تحطيمهم أو احتواءهم، إما بالبحث عن ثغرات في حياتهم، أو صناعتها إن لزم الأمر، أو ضرب مصداقيتهم وإبراز التناقض بين قولهم وفعلهم، بالحق أو بالباطل، أو احتوائهم إن فشل كل هذا عن طريق استضافتهم بكثرة في البرامج أو أن يكون لهذا الشخص برنامجا خاصا ليقدمه، ومع الوقت ومع كثرة الظهور لن يجد ما تحدث فيه وسوف يعتاد الناس ظهوره ويملونه ، و"من كثر كلامه كثر خطؤه".

- صناعة رموز جديدة تتمتع بالقبول والمصداقية، وظهورها بكثرة مع اعتمادها كمصادر للمعلومات والرؤية والتحليل.

- غرس الصورة الذهنية التي يسهل استدعاؤها، فمثلا في التسعينيات كان ذكر كلمة "ارهاب" في مصر لا يستدعي إلى ذهن أغلب الناس سوى صورة شخص ملتح متجهم الوجه يرتدي جلبابا قصيرا، هذه الصورة طبعا تم ترسيخها عن طريق العديد من الأفلام والمسلسلات، ومثال آخر، ذكر كلمة "شريعة" يستدعي على الفور إلى ذهن المستمع صورة ليد مقطوعة.

- القولبة والتصنيف وفرض الاختيارات، فكل شيء جديد أو غير قابل للفهم يتم وضعه في قوالب معدة التجهيز، مع مراعاة أن هذه القوالب لها صورة معينة في ذهن المستمع،  ومن الضروري جدا أن تكون هذه القوالب في شكل ثنائيات،  ووضعك في دائرة الاختيار بين خيارين، فإذا كنت مع "س" فأنت بالتأكيد لست مع "ص" والعكس صحيح، وهذا يخلق حالة من الاستقطاب والاختزال ويلغي وجود أي مواقف مركبة أو حلول وسط، ويكون الهدف من حالة الاستقطاب هذه هو منع الناس من التفكير "خارج الصندوق"، أو ابداع حلول أو مواقف جديدة، لأن يؤدي إلى تحرير الوعي من التصورات المفروضة عليه، بينما هدف الإعلام دائما هو السيطرة على الوعي.

 - المصلحة/ العاطفة: اعتماد منهج مادي في تحليل الأحداث يعتمد على المصلحة، فكل حدث هو لمصلحة طرف ما، حتى لو قام هذا الطرف بتضحية أو بتفضيل مصلحة عامة على مصلحته الخاصة، يتم تفسير هذا التصرف وفق منهج التحليل المادي السابق، ومحاولة إيجاد أي مصلحة تكون هي الدافع، فقد يكون دافع هذا الطرف هو السعي لتجميل صورته، أو يكون لتحقيق مصلحة بعيدة، أو أنه يفعل ذلك لهدف خبيث سيظهر لاحقا، المهم أنه لا يوجد أحد شريف أو سليم النية، كل يعمل لمصلحته، اللهم إلا الأطراف التي يسعى الإعلام لتلميعها وصناعتها، فيتم استخدام خطاب عاطفي للغاية يلغي فكرة المصلحة تماما.

-  استخدام ألفاظ ذات دلالات معينة لتوصيف الخبر أو المعلومة، فمثلا استخدام كلمة "شهداء" يستدعي التعاطف، بينما "استخدام كلمة "قتلى" يلغي هذا التعاطف أو يحيده، وبالتأكيد كلمة "اعتداء" يكون لها دلالة مختلفة تمام عن كلمة "دفاع"، وكذلك كلمتي "إرهاب" و"مقاومة"، كل هذه الألفاظ قد تستخدم لوصف مواقف واحد، وذلك لإبجاد انطباع معين لدى المتلقي.

- ارهاب المصطلح (التعبير مقتبس من د. محمد مورو): مثل كلمة "ارهاب فكري"، "تكفيري"،" تخوين"، "أصولية"، "محاكم تفتيش" مصطلحات مثل هذه تولد شعورا بالنفور في المتلقي، حتى لو لم يكن يعلم معناها، وفي المقابل اضفاء القداسة على مصطلحات أخرى مثل "المدنية"، "العلم"، "التنوير"، "الحداثة"، "حرية التعبير" بحيث تصبح أي محاولة لمناقشة هذه المصطلحات أو وضع تعريف لها هو من قبيل "الهرطقة"، هذا بالطبع يجب أن يكون في اطار الثنائيات المتضادة التي ذكرتها في النقطة السابقة.

- غرس مصطلحات في اللاوعي عن طريق تكرارها بطريقة كبيرة جدا، وهذا يتوقف على الحدث وماهو المصطلح المطلوب غرسه، فمثلا في هذه الأيام يتم  تكرار كلمات مثل "ميليشيات"، "حرب أهلية"،"أخونة"، ويتم الغرس بحيث يمكن استدعاء هذه المصطلحات ذاتيا من المتلقي دون الرجوع للإعلام.

القاعدة الثالثة: تنوع مصادر المعلومات، والتخلص من القولبة والصور الذهنية.

يجب أن تعلم "من" يقول "ماذا" و"لماذا"، فمعرفة مالك "القناة الفضائية" أو "الصحيفة" ومعرفة توجههه أمر ضروري للحكم على المحتوى الاعلامي لما يملكه، وكما ذكرت في السابق أن الاعلام يخصع لتوجهات رأس المال، كذلك معرفة الشخص المتحدث وتاريخه ومواقفه السابقة، تفيد كثيرا في الحكم على ما يقوله الآن وعلى طريقة نقله للحدث، والأهم من ذلك كله، يجب أن نعرف أن طريقة صياغة الخبر تؤثر كثيرا في المتلقي، فالخبر يمكن أن يصاغ بأكثر من طريقة ليعطي انطباعا مختلفا، لذلك فمن الضروري أن تقوم بتلقي الخبر من أكثر من مصدر، حتى تلم بالتفاصيل وحتى لا تؤثر فيك الصياغة، وكل ذلك يأتي بعده تتبع مصدر الخبر، لأن المصدر أيضا عامل أساسي في الحكم على صحته.

القاعدة الرابعة : العزلة الشعورية (التعبير مقتبس من سيد قطب ولكن استخدمه في سياق آخر)، والمقصود بها: لا تجعل عواطفك ومشاعرك هي التي تتحكم في تقييمك للمعلومة، أو تؤثر في بحثك عن صحتها، فأحيانا تتمنى وقوع خبر معين، وعندما تتلقى هذا الخبر تقوم بتصديقه أو بنشره دون أن تتثبت من صحته، مثل خبر عن مقتل "بشار الأسد" أو هروبه، هذا الخبر قد تم تداوله أكثر من مرة، ثم يتضح بعد ذلك أنه خبر غير صحيح، وكذلك العكس صحيح، فقد يقع حدث ما، ويقوم البعض بالمسارعة إلى تكذيبه، لأنه صعب على التصديق أو لأنه خبر مكروه بشدة، ثم يتضح في النهاية أنه صحيح.

القاعدة الخامسة: لا تبن مواقفك على مواقف الآخرين: الكثير من الناس يبنون مواقفهم على مواقف الآخرين، ويَعرفون الحق بالرجال، في حين أن الرجال هم من يُعرَفون بالحق، ففلان أكرهه ولا أطيقه، عندها سوف اتخذ بالضرورة موقف معاكس له دون تردد، وفلان أحبه، فسوف أتخذ موقفه دون تردد، وذلك دون معرفة دوافع هذا أو ذاك التي دعته لاتخاذ ذلك الموقف، ودون التفكير في الموقف ذاته وتحليله، فلربما كان الصواب قد جانب الطرفين، وربما كانت وجهة نظر كل منهم لها وجاهة. لذلك فكل ما عليك هو أن تعرف الحق وتقف بجانبه دوما، ويكون تقييمك للأشخاص ومواقفهم من خلال مدى قربهم أو بعدهم عن الحق. وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "اعرف الحق تعرف أهله".

القاعدة السادسة: التحرر من أي تابوهات أو مسلمات غير منطقية لا تستند على أساس دين أو أخلاق أو قيمي: فكل مسلماتك ومنطلقاتك يجب أن تكون نابعة من أساس ديني أو أخلاقي أو قيمي، ولا تكون نابعة من الأهواء، وهذه النقطة سوف أتعرض لها بالتفصيل في المقال القادم بإذن الله "بناء الوعي" وذلك لأنها الخطوة الأخيرة في "تحرير الوعي" من التزييف والخداع، والخطوة الأولى في "بناء الوعي" الجديد، فهي خطوة مشتركة وحاسمة.


في النهاية لا أقول أن هذه دعوة للشك في كل شيء، بل أقول فكر واعمل عقلك في كل شيء.

هناك 14 تعليقًا:

sakalonia يقول...

راااااااااائعه جدا اشكرك

أساسيات كتابه الشعر يقول...

ماشاءالله مقال قيم

ويندوز سيستمز يقول...

بارك الله فيكم علي هذه القيمة المميزة

umzug يقول...

Thanks to topic

اياد المصري يقول...

جميله شكرالك

Unknown يقول...

شكرا لك مقال ممتاز



الحب

العمل من بعد يقول...

صناعة الوعي السليم هي الحل

موقع يلا شوب يقول...

مقال راائع شكرا لك

العاب بنات يقول...

توضيح مميز وقيم

تعلم السياقة يقول...

فعلا نحن بحاجه لتحرير الوعي

نادي تويوتا يقول...

حفظكم الله مقال رائع وقيم

شركة البراك يقول...

ممتاز شكرا لك

مدونة زوايا يقول...

موضوع يستحق الشكر

alrayyanclean.com@gmail.com يقول...

ممتاز جدا
شركة تنظيف بالرياض