23‏/10‏/2013

إلى عمر

كتبت في 14-10-2013

أخي العزيز عمر
اعرف انك لن تقرأ هذا الكلام، ولكني لا استطيع ان اتكلم عنك بصفة الغائب، فأنت حاضر في قلبي دوماً.. لا يمر علي يوم إلا وتذكرتك..

شهران كاملان مرا على رحيلك وأنا أحاول أن اكتب عنك ولكني لم استطع ..

مازال لساني معقوداً ومازالت عاجزاً عن الكلام والكتابة ولكني أدفع نفسي دفعاً لذلك..

كنت أتمنى أن اكون اديباً لأعبر عما في صدري ولكن للأسف لست كذلك..

أول مرة أراك فيها كانت في أوائل يناير 2013 في اليوم الذي اعددنا فيه قافلة للسفر إلى غزة، وشاء الله ألا أذهب مع القافلة لظروف شخصية، كان انطباعي الأول عنك هو أنك تخفي في داخلك أكثر مما تظهر بكثير، ولكني لم أتأكد من ذلك إلا بعد رحيلك، رأيت في عينيك ثقة واطمئناناً غريبين، كانا ملازمان لك دوماً..

بعد عودة القافلة كان الشباب يتكلمون عنك وعن أنك شخص طيب القلب لطيف المعشر، وقد أحبوك جميعاً..

التقينا مرات عديدة بعد ذلك ، كنت ألاحظ أنك لم تكن مهتماً بالاجتماعات واللقاءات، وكنت اظن ذلك نوعاً من عدم الانضباط يجب أن يعالج، وربما تكون الاهتمامات الدنيوية قد طغت عليك، لم أكن أعلم أنك مهموم بحال الأمة أكثر مني بكثير - وياريتني علمت - لم أكن أعلم أنك تعد نفسك للسفر إلى سوريا للجهاد وأن الانقلاب الذي حدث هنا في مصر قد دعاك لتغيير خططك..

لا زلت أذكر عندما ذهبنا في رحلة سويأ إلى "وادي دجلة"، واذكر عندما تولينا أنا وانت مسئولية التصوير وعندما اعطيتني هاتفك لأقوم بتصويرك، واذكر أنك كنت أقرأنا وأحفظنا للقرآن وكنت تصلي بنا إماماً، مازلت أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله، وقد احببتك كأنك أخي منذ ذلك اليوم..

لازلت أذكر عندما جاءتنا دعوة للقاء مرسي في قاعة المؤتمرات، وكانت مهمتي أن اتصل بالشباب لتشكيل وفد منهم، وكان ما أعرفه أنه لقاء لمرسي مع القوى والأحزاب الإسلامية، وعندما اتصلت بك تحفظت ورفضت بشدة لأنك ترفض أداء مرسي والأخوان وترى أنهم مخطئون، وقلت لي بالنص "أنا ماليش في الحاجات دي"، حتى عندما طلبت منك أن تخبر الشيخ هاشم والدك بالأمر توفيراً للوقت، اعتذرت عن ذلك وطلبت مني أن أبلغه بنفسي.. وأذكر جيداً أن هذا الموقف كان بالغ الأثر في نفسي وأنني بعد الحديث الذي دار بيني وبينك قررت ألا أذهب، ثم شاء الله أن ارتبط بظروف عائلية تمنعني من الذهاب.. وسبحان الله كأن قلبك رأي ما حدث، لقد كان اللقاء اشبه بمسرحية هزلية، وكان انطباع أغلب من ذهب من الشباب سلبياً ..

اذكر حين كنا في اعتصام النهضة – ليلة مجزرة الحرس الجمهوري – وقد رأيناك صدفة في الاعتصام ولم نكن نعلم بوجودك، ولم نعلم بعد ذلك أنك مقيم بشكل شبه دائم هناك..

وبعد فض الاعتصام اتصل بي محمود ليخبرني بأننا قد فقدنا الاتصال بك ولا نعرف عنك شيئاً، كنت أبحث عنك في الأسماء التي تنشر على الانترنت وأدعو الله أن نجدك، ثم توقفت عن البحث خشية أن اجد اسمك في قوائم الشهداء.. في ذلك الوقت كانت تتردد إشاعة أن هناك آلاف المعتقلين في استاد القاهرة وكنت أتمنى أن تكون منهم، وكنت أمني نفسي بذلك ..
وبعد ثلاثة أيام اتصل بي أحمد الكردي وهو يبكي، لم أكن أفهم منه شيئاً ولكني سمعت اسمك فاستنتجت على الفور، واتصلت بمحمود وعرفت منه أن والدك في الطريق إلى المشرحة للتعرف عليك، وظللنا نتابع الموقف حتى تأكدنا من صحة الخبر، عندها سلمت بالأمر وجلست أبكي..

عرفت بعد ذلك أن السفاحين قد قتلوك حرقاً وأن والدك وأختك تعرفوا عليك بعلامات في جسدك وبالخاتم الذي كنت ترتديه، كانت مشاعري مختلطة بين الغضب على ما فعلوه بك، وبين الحزن على فراقك، وبين الراحة لأننا وجدناك..
اذكر عندما وقف الشيخ هاشم - ثبته الله – يقرأ وصيتك، وكيف أنني عرفت عمر الآخر الذي لم أكن أعرفه..

اذكر عندما خرج النعش من المسجد ووضع في السيارة انفجر أغلبنا في البكاء..

اذكر جنازتك التي لم أر مثلها في حياتي، لا استطيع أن أصفها إلا كما وصفتها من قبل " الأم تزغرد .. الأب يوزع الشربات ويقول: "لا تعزوني بل هنئوني".. الأقارب والأصدقاء يضربون أبواق سياراتهم من امبابة وحتى 6 اكتوبر وكأنها "زفة عريس"، ويخرجون أيديهم من السيارات إما حاملين للمصاحف أو مشيرين بإشارة "رابعة".. وكلما تهدأ السيارات يهتف أحدهم "زفوا العريس" فتنطلق الأبواق ثانية .. وعند الوصول لصلاة الظهر في جامع الحصري تتحول إلى مظاهرة حاشدة تهتف بسقوط حكم العسكر" ..

صدقت الله فصدقك يا عمر..
رحمك الله يا أخي وأنزلك منازل الشهداء وألحقنا بك على خير..

وصية الشهيد - بإذن الله - عمر هاشم
 

الإسلاميون الماديون

كتبت في 24-6-2013


ترددت كثيراً في كتابة هذا المقال، خوفاً من أن يساء فهمه أو يتم استغلاله في حالة التراشق الموجودة الآن بين الإسلاميين وغيرهم، أو حتى بين أبناء التيار الإسلامي بعضهم البعض، ولكنني أجد ضرورة في طرح هذا الكلام كنوع من النقد الذاتي.

لا أقصد بالإسلاميين هنا المشتغلين بالسياسة – كما هو دارج- ولكن أقصد المعنى الأوسع، وهو الذي يشمل العاملين بالدعوة والعاملين بالسياسة وكل المتدينين – أو الملتزمين كما يطلق عليهم.

 والمقصود هنا بالعنوان هو ظهور الكثير من الأعراض المادية على هؤلاء "الإسلاميين"، تؤدي ببعض إلى "علمنة" الدين وتبني بعض المفاهيم الغربية عن طريق أسلمتها (اضفاء طابع إسلامي عليها في المظهر فقط)، قد يبدو ذلك في تبني الأساليب والأدوات الرأسمالية في السيطرة على الجماهير أو التواصل معهم، ولكن هذا أمر هين يمكن تلافيه في حالة التخلص من تلك الأعراض المادية، وسأحاول هنا استعراض بعض تلك الأعراض،وهي موجودة بعضا أو كلها عند الكثير من الإسلاميين بمختلف مناهجهم ومدارسهم – ولا أبرئ نفسي- لذا فانا لا أسعى هنا إلى اسقاط الكلام على تيار محدد أو حزب معين لانها ظواهر عامة موجودة فينا كلنا بشكل أو بآخر، وأرجو ألا يقوم أحد بذلك الاسقاط.

الرأسمالية/ الاستهلاكية: نعيش الآن حالة من طغيان الفكرة الرأسمالية الاستهلاكية في كل جوانب حياتنا، في الممارسات السياسية والاقتصادية بل وحتى الدعوية.

في الجانب السياسي نجد أن البراجماتية واستغلال الفرص والمداهنة وتقديم التنازلات أصبحت سمة عامة لكثير من الإسلاميين، يعتبرونها ضرورة للعمل السياسي، وتبني المفاهيم الديموقراطية اللبيبرالية ومحاولة أسلمته وشرعنتها.
اما في الناحية الاقتصادية، فنجد مثلاً أشهر المحلات الاستهلاكية (الطعام والملابس وغيره) أصحابها من الإسلاميين، وربما كان الأمر مبرراً قبل الثورة في مصر بسبب الضغوط الأمنية، ولكنني بعد الثورة وبعد وجود رئيس "إسلامي" في الحكم، لم أجد أحداً من هؤلاء من يتبنى مشاريع صناعية أو انتاجية، بل قام البعض بافتتاح سلاسل محلات "هايبر ماركت" ضخمة تزيد من الحالة الاستهلاكية الرأسمالية.

لا أريد أن أسهب في هذه النقطة، ولكن اكثر ما يضايقني هو تسلل هذه الحالة للمجال الدعوي، مثل الحديث عن "عداد الثواب" وكيفية تحويل كل سكنة وحركة إلى رصيد من الحسنات، و"كيف تحصل على مليار حسنة وانت جالس في مكانك"، باعتبار أن هناك حساباً جارياً لتجميع هذه الحسنات، وان كل مهمة الإنسان في الأرض أن يحصل على أكبر قدر من الحسنات لتكون أكثر من سيئاته يوم القيامة، كل ذلك في تجاهل تام أن الله سبحانه وتعالى هو من يتقبل العمل وهو من يحتسب الحسنات وهو من يضاعفها لمن يشاء، وأننا ندخل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى وليس بأعمالنا، وقد تحول الأمر من شهوة جمع المال إلى شهوة جمع الحسنات، وقد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سابق "عايز تاخد ثواب ببلاش"


كل هذه ممارسات استهلاكية بامتياز، لا علاقة لها بالدين، ولا علاقة لها برسالة الإنسان في نشر التوحيد وإعمار الأرض، وتعبيد الناس لله سبحانه وتعالى.

التعلق بالأسباب: فالنصر لا يكون بعدد ولا بعدة، ودرس غزوة حنين يجب أن يظل حاضراً أمام أعيننا دائماً "لن نغلب اليوم عن قلة"، كل المطلوب هو الاتزام بالمنهج والإعداد والأخذ بالأسباب، قل العدد أو كثر، قلت الامكانيات المادية أو كثرت، فليس هذا هو المعيار، وقد ينصر المسلمون بالرعب "نصرت بالرعب مسيرة شهر"، وقد قال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".

الكهنوت: أسوأ ما يمكن أن يحدث للإسلام هو ذلك المفهوم، مفهوم "كهنة المعبد" الذين يملكون مفاتيح العلم وبالتبعية مفاتيح الجنة، بل ومفاتيح الدين نفسه، فهؤلاء "الكهنة" يصنفون الناس من حولهم، فهذا "ليس سلفياً" وهذا "من الخوارج" وهذا "ضال مغرر به" وهذا "في عقيدته دخن"، كل ذلك على المستوى الداخلي، أما على مستوى العامة، فلفظ "العامة" في حد ذاته يستخدم للدلالة على الجهل، واستخدام هذا اللفظ يستتبع استخدام لفظ "الخاصة"، وينتج عن ذلك تكون فئتين في المجتمع، "الخاصة" وهم كهنة المعبد وتلاميذهم، و"العامة" الدهماء الجهلاء الذين ليس لهم إلا أتباع أوامر الكهنة دون علم أو تفكير، وبذلك أصبح "صاحب العلم" أو "طالب العلم" يملك قدراً من الغرور والاستعلاء على بقية الناس، وبدلاً من أن يزيده علمه تواضعاً ورقة يزيده غروراً وتكبراً، فلا يخالط "العامة" ولا يتعامل معهم إلا في أضيق الحدود، وله مجتمعه الخاص الذي يعيش فيه منعزلاً عن بقية المجتمع، ويصبح مقياس الإيمان هو قدر علمك، برغم أن هناك علماء تسعر بهم نار جهنم في الآخرة بنص الحديث النبوي.

وقد يحل الدين في شخص "الكاهن" – معذرة لا استطيع أن استخدم لفظ عالم أو شيخ – ويصبح له تلاميذه من حوله الذين يقدسون كلامه وياخذونه دون مناقشة، بل وأحياناً يؤلون الآيات والأحاديث التي وردت في أمر ما لتتفق مع كلام "الكاهن"، ويترتب على ذلك أن يكون الولاء والبراء على الشخص بدلاً من المنهج، وأن اختلافك مع هذا الشخص هو دليل على جهلك والفساد في عقيدتك، حتى لو كنت تستدل في كلامك بآيات وأحاديث قرآنية، فأنت بالتأكيد شخص جاهل مغرر بك أو مؤول خبيث. بل ويمتد ذلك إلى "الملتزمين" الآخرين، فالشيخ "فلان" هو شيخ ضال وعلى خطأ دائماً فلا تأخذ عنه العلم، وتلاميذه هم الضلال بعينه فلا تخالطهم، وتكون المقولة المأثورة "قل لي من شيخك أقل لك من أنت"، وهو نفس أسلوب المادي للأجهزة الأمنية "الطاغوتية" في تصنيف الناس وقولبتهم، والشخص الذي لا يلتزم بمعلم أو شيخ معين لا ياخذ إلا عنه فهو شخص معيب و"لا شيخ له".

وليس ضرورياً أن يحل الدين أو المنهج في شخص، بل قد يحل في "حزب" أو "جماعة" أو "تيار" ولكن في النهاية يمكننا أن نحدد مجموعة من الأشخاص هم من يمثلون الدين على الأرض، وهي نفس النتيجة.

السلطوية: وهو مفهوم مرتبط بفهوم "الكهنوت"، فالشخص المصاب بهذا المرض دائماً ما تكون الحلول التي يقدمها لأي مشكلة حلولاً سلطوية، فالمنع والحجب والقمع والقوة دائماً الحل الأفضل، في حين أن هناك الكثر من القضايا يمكن معاجلتها بالرفق واللين، والأمثلة في السيرة النبوية كثيرة جداً.

أصحاب هذه الفكرة لا يختلفون عن أي ديكتاتور سفاح، ولديهم من الحجج والمبررات دائماُ ما يقوي موقفهم، ويرون دائماً ان مواقفهم تمثل الدين، لا تمثل اجتهاداً يمكن أن يخطئ ويصيب.

احتكار الحق: "فمن يختلف معي فهو على خطأ بالتأكيد، فأنا الصواب وأنا الذي امثل الحق والفهم الصحيح للدين"، وهو من نتائج الاغترار بالعلم والتحزب لفئة معينة، يضاف إلى ذلك عدم استساغة الاختلاف في فهم النص وفي تطبيقه.

الاختزال: تحويل الدين إلى مظهر، فاللحية والقميص والجلباب المقصر والنقاب والسواك هما أساس الحكم على مدى إيمان الشخص وتدينه، وهي أمور برغم أهميتها إلا انها ليست الدليل على قوة الإيمان، فالإيمان ليس كياناً مادياً ثابتاً، وليس رصيداً في البنك، بل هو يزيد وينقص بحسب حالة الشخص. ولكن اختزال الدين في "طقوس" معينة واعتبار من لا يفعل ذلك شخص "ضال" أو "ناقص الإيمان" يعتبر نوع من أنواع علمنة الدين، وأكرر ثانية أن هذا لا يعني رفضي لتلك المظاهر، بل انتقادي منصب في الأساس على اعتمادها كأساس للدين.

الكراهية المقدسة: حالة الاستعلاء بالعلم والاحتقار للأخرين ليس لها إلا نتيجة واحدة، وهي تكون طاقة كبيرة من الكراهية يجب أن توجه في اتجاه ما، وتكون هذه الكراهية هي المحرك الأساسي للأشخاص، يجب أن يكون هناك "آخر"، هذا الآخر نحمل له كل الكراهية والبغض، والرغبة في قتله وسفك دمه، هذا الآخر يختلف حسب الزمان والمكان والظروف التاريخية والسياسية، فتارة يكون "الكفار" وتارة "النصارى" وتارة "اليهود" وتارة "الشيعة"... إلخ
هؤلاء عندما يفكرون بتلك الطريقة المادية يغيب عنهم أمر هام جداً، أن هذا الآخر من الممكن أي يهتدي فجأة، ويصبح أخاً لنا، ومن الممكن أيضاً أن يتحول "أخ" إلى "آخر"، فما العمل في ذلك الوقت؟

نحن نكره الكافر لكفره وليس لشخصه، فإن آمن وتاب وأصلح فهو أخ لنا، وفي النهاية النفس البشرية مكرمة وغالية، واذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرت امامه جنازة ليهودي فقام لها احتراماً فتساءل الصحابة عن ذلك فقال لهم "أليست نفسا"، وأذكر أيضا عندما دمعت عينيه صلى الله عليه وسلم عندما مرت جنازة اخرى وقال: "نفس تفلتت مني إلى النار"، فالإسلام بعث رحمة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ورسالة الأمة أن تقوم بدعوة الناس كافة إلى التوحيد، وتحرص كل الحرص على هدايتهم  إلى الحق "لأن يهدي الله بك رجلاُ خير لك من حمر النعم"، فالكراهية هنا يجب أن توجه لمفهوم الكفر، والطاقة المحركة للإنسان ليست كراهيته للناس، بل إيمانه ورغبه في هداية الآخرين للحق.

مصلحة الدعوة: هذا المفهوم للأسف يتم استخدامه أسوأ استخدام، عندما تتجسد الدعوة في مجموعة من الناس (أو في شيخ) ويصبح التهديد لوجود هذه المجموعة تهديد لوجود الدعوة، وكأن الدعوة لا تقوم إلا بهؤلاء، وكأن  مطلوب دائماً من الدعاة أن يحافظوا على سلامتهم ويقدموا الكثير من التضحيات على حساب المنهج حفاظاً على مصلحتهم (التي هي مصلحة الدعوة من وجهة نظرهم)، والحقيقة أن هذا الأمر لا يستقيم مع المنهج في الأساس، فصاحب الدعوة معرض دائما للإيذاء والابتلاء، ومصلحة الدعوة تكون في صبره على هذا الابتلاء وصموده ضد التهديد والإيذاء، وأحياناً يكون موته في سبيل دعوته مصلحة للدعوة، ولنا في قصة الغلام في قصة أصحاب الأخدود أكبر مثال. فمصلحة الدعوة قد ترتبط أحياناً بمصلحة الداعية واحياناً اخرى تتضاد معها, ولكن هذا المفهوم يغيب للأسف بسبب تجسد الدعوة في أشخاص كما قلت سابقاً.

طبعاً يدخل في ذلك الأمر الكثير من سوء الاستدلال بالآيات والأحاديث وبعض مواقف السيرة، واسقاطها في غير مواضعها، والحديث عن حساب المصالح والمفاسد وحقن الدماء، والكثير من أقوال الحق الذي يراد به باطل.

ثنائية(المؤامرة/ الاضطهاد): وهي حالة متقدمة من البارانويا (جنون الاضطهاد) تتلخص في "كل شيء يحدث هو مؤامرة دنيئة تهدف للقضاء علي وعلى منهجي، وكل الأطراف تتآمر علي ليل نهار، كلهم خونة"، ولا أنفي هنا فكرة التآمر، أو فكرة أن دعوة الإسلام تحارب من أطراف متعددة، ولكن اختزال الظروف المحيطة في شكل مؤامرة، وعدم القدرة على فهم الواقع المركب، وعدم تناول هذه الظروف بالفهم والتحليل وفهم الدوافع والأسباب والنتائج تزيد من العزلة وتقوي حالة الشعور بالاضطهاد، وتدفع صاحب هذا العرض إلى اتخاذ قرارات وردود أفعال غير متزنة يخسر بها الكثيرين من المحيطين، وتدفعه إيضاً إلى عدم الاعتراف بأخطائه وتبريرها، فهو دائماُ ما يكون "مضطراً لهذا"، ودائماً ما يكون عصبياً ومتشنجاُ لأنه يرى أن الكل ضده، في حين أنه لو حاول الخروج من هذه الثنائية وحاول أن يفهم الواقع حوله ويفككه يمكنه أن يتفهم الكثير من المواقف حوله، ويمكنه أن يلتمس الأعذار، ويمكنه أن يعامل الناس بحسب قدراتهم وطاقاتهم، وعندها يكون أكثر قدرة لتفتيت التحالفات والمؤامرات الحقيقية التي تحاك حوله، ويكون اكثر قوة وصلابة وصموداً.