10‏/03‏/2021

فيلم Soul ورحلة البحث عن الروح في هوليوود (1)


هذا المقال نشر على موقع ساسة بوست على جزئين: الجزء الأول، الجزء الثاني

الروح - كانت ومازالت - مادة للجدل بين المؤمنين والماديين، فهي أمر غيبي لا يخضع للقياس بالعلم التجريبي، ولا يمكن اثباتها مادياً، ولكن برغم ذلك لا يمكن إنكارها، خصوصاً لما يرتبط بها مما يدل عليه الوعي والعقل والإرادة الحرة، وهي أمور محل إنكار للماديين، ولهم فيها تأويلات غريبة، ولم تكن هوليوود بعيدة عن هذا الجدل بالتأكيد، وقد ناقشت عشرات الأعمال فكرة وجود الروح من عدمها، وهل يمكن أن توجد خصائصها مثل الوعي Consciousness، والعقلMind ، والإرادة الحرة Free will، والمشاعر، والإبداع Creativity، بدون وجود الروح نفسها؟ نستعرض معاً بعض الأمثلة الشهيرة في هذا الصدد ..

فيلمsoul  أو "روح" هو أحد الأفلام المنتجة حديثاً من قبل شركة ديزني، الحبكة الرئيسية للفيلم عن شخص يتعرض لحادث في يوم مهم من حياته، وتصعد روحه لعالم يشبه عالم "البرزخ"، والذي تتهيأ فيه الأرواح التي ماتت أجسادها للدخول لعالم الـ"ما وراء العظيم" أو the great beyond ولكنه يرفض فكرة الموت ويهرب إلى عالم الـ"ما قبل العظيم" أو The great before، والذي تسكنه الأرواح الصغيرة لتتعلم وتكتسب فيه شخصياتها قبل أن تنزل إلى الأرض وتسكن الأجساد، ويدير هذا العالم مجموعة من الموظفين على شكل كائنات نورانية (في إشارة للملائكة) .. ويسعى بطل القصة للعودة إلى الأرض ليسكن جسده الراقد في المستشفى بمساعدة روح صغيرة ترفض النزول للأرض، ويقابل سكان منطقة تسمى The zone تعلق بها الأرواح الحائرة والأرواح التي تعيش حالة من السمو أو الإلهام الفني، والتي لم تنفصل عن أجسادها، ليساعدوه للعودة للأرض ..

وهو من الأفلام القليلة التي اعترفت بوجود الروح، واعتبرتها كيان منفصل عن الجسم، ولكنها تدور في طرح ساذج باعتبار الجسد آلة تعمل بالروح، ويمكن إعادة تشغيلها عن طريق نزع هذه الروح منه، وإعادتها ثانية، بل يمكن لهذه الروح أن تعود في جسد آخر (في إشارة غير مباشرة لفكرة تناسخ الأرواح(، وبالرغم من أنه تناول غيبية ما قبل الحياة وما بعد الموت وقدم لها تصورات، ولكنها كانت تصورات ساذجة منزوعة المعنى والغاية، لأن عالم الغيب والأرواح في النهاية لا يمكن تناوله بمعزل عن الدين ..

فيلم آخر هو كاسبر Casper عام عام 1995 عن الشبح الصغير الذي يحلم بأن يسكن جسداً بمساعدة عالم يبتكر جهازاً لإعادة الروح للجسد، ومرة أخرى نجد طرحاً ساذجاً يتعامل مع الجسد كالآلة القابلة للتشغيل .. ولكن هل اعترفت الأعمال الهوليودية الأخرى بوجود الروح؟

باستثناء الأفلام التي تتناول عالم الروح وعوالم الجن والأشباح كمادة للرعب، أكثر منها أي شيء آخر، يمكننا أن نقسم الأعمال التي ناقشت فكرة الروح (وما يتبعها من الوعي والعقل والإرادة الحرة) إلى عناوين رئيسية:

(1) عالم الخالدين أو الـ Immortals:

 وهو عالم تتسم فيه الشخصيات بصفتين، الأولى هي الخلود أو الـ immortality (عدم الموت وحتى عدم التقدم في السن)، والثانية هي القدرة على التعافي أو الـ Self-healing  حيث يقوم الجسم بالتعافي من أي جروح أو إصابات (وأحياناً إنبات أعضاء جديدة)

مثال قريب هو فيلم The old guard عام 2020 حيث يشكل أبطال الفيلم فرقة مقاتلة خاصة، ونكتشف معا أنهم "خالدون" لا يموتون مهما تعرضوا لإصابات، ويعيشون منذ آلاف السنين، وكل ذلك لسبب غير معروف، وأمر يحدث بشكل عشوائي (كأنه نوع من الطفرات)!! وهناك أيضاً شخصية Wolverine من عالم مارفل، ظهرت في عدد كبير من الأفلام، وهي شخصية اتصفت بالخلود وبالقدرة على التعافي أيضا، شخصية أخرى من عالم مارفل وهي Deadpool حيث امتلك بالإضافة إلى ذلك القدرة على إنبات الأعضاء المبتورة!!

فكرة أخرى وهي إعادة إحياء مقاتلين أشداء، وإضافة بعض الصفات الخارقة لهم، بحيث يصيرون غير قابلين للقتل، مثل فيلمUniversal Soldier  عام 1992 أو فيلم Bloodshot  عام 2020

ونختم هذا العالم بفيلم Death Becomes her عام 1992، حيث تسبب لعنة سحرية في خلود الشخصيات وعدم موتهم مهما حدث لهم من إصابات، بل في نهاية الفليم تكسرت أجسام بعض الشخصيات إلى قطع متفرقة وظلت هذا الشخصيات "حية" بشكل ما.

(2) عالم الزومبي (الموتى الأحياء):

وهي حالة عالقة بين الحياة والموت، أو هي للموت أقرب، فيصبح الشخص أشبه بالجثة المتحركة (التي تتحلل بمرور الوقت)، وقد يحدث ذلك بسبب السحر الأسود (وهي في الأساس أسطورة شعبية في جزر هاييتي)، أو وجود فيروس (أو كائنات دقيقة) يستحوذ على جسد الإنسان ويقوم بإدارته و"تشغيله"، وقد أضافت هوليود فكرة التغذي على لحوم الأحياء لزوم الرعب، وبعض الصفات الأخرى التي أصبحت أشبه بالقواعد في عالم الزومبي.

فيلم  Warm Bodiesعام 2013 حيث يقوم مرض ما بقتل البشر وتحويلهم إلى Zombie، حيث يتوقف القلب عن العمل، وكلن يظل المخ يعمل بشكل جزئي ويقوم بالتحكم في الجسد وتحريكه، وفي نهاية الفيلم يتوصل الأبطال إلى طريقة لـ"إعادة تشغيل" القلب والأجهزة الأخرى ويعود الإنسان إلى الحياة..

وبرغم إننا نتكلم في الأساس عن هوليود وصناعة الأفلام، ولكننا لا يمكن أن نتجاهل صناعة المسلسلات، وخصوصاً في العقد الأخير، وقد أصبح بعضها ينافس الأفلام الشهيرة ويقترب منها في الميزانيات الضخمة، بل إن بعض المسلسلات تتفرع من أفلام شهيرة وتصبح امتداداً لها، كما في عوالم مارفل ودي سي، والعكس أحياناً..

وأحد المسلسلات الشهيرة في هذا الأمر هو مسلسل "الموتى السائرون" أو The walking dead، وبرغم أنه خلطة من الرعب والأكشن والدراما، لكن حبكته الرئيسية هي ظهور مرض أو فيروس يصيب الأحياء ويقتلهم ثم يتحكم في أجسامهم ويعيدهم إلى حالة من الحياة، عن طريق "تشغيل" جزء معين في المخ، يسمح للجثث بالحركة والرؤية والسمع والأكل، ولكنهم يتغذون على لحوم الاحياء، ولا توجد وسيله لقتلهم إلا بقتل المخ، وعلى مدار حلقاته الطويلة على طوال 10 سنوات و10 مواسم (منذ 2010 وحتى الآن)، تُطرح الكثير من التساؤلات عن ماهية هؤلاء "الموتى السائرين" وهل هم أحياء فعلاً أم لا؟ وبرغم أن هذه المناقشات والتساؤلات تؤدي في النهاية إلى رفض الاعتراف بهم كأحياء (لأنهم يفتقدون السمات الأساسية للبشر مثل الوعي والتمييز والإرادة) ولكن تظل هذه التساؤلات مطروحة مع تجاهل تام للحديث عن الروح ..

أحيانا يكون الاستحواذ من كيان ما أو كائن فضائي كما في فيلم The host أو "العائل" عام 2013 ، حيث يقوم كائن ما قادم من الفضاء بالدخول إلى جسد بطلة الفيلم والاستحواذ عليه وإدارته، ولكن يظل هناك صراعاً خفياً بين هذا الكائن و"وعي" الشخصية بطلة الفيلم، وفي النهاية يتوصل الأبطال إلى "حل وسط" يقوم فيه هذا الكائن بالحلول في جسد ميت وتدب فيه الحياة.

(3)  الاستنساخ أو النسخ:

في فيلم Criminal عام 2016 حيث يموت عميل مهم في المخابرات المركزية الأمريكية، فتقوم المخابرات بنسخ ذاكرته وزرعها في مخ رجل محكوم بالإعدام، حتى يتمكنوا من معرفة ما لديه من أسرار واستكمال مهمته، وتحل ذاكرته ومشاعره في مخ هذا المجرم، وفي النهاية تتقبل أسرة العميل الميت الأمر ويعتبرون أنه قد عاد للحياة في جسد آخر.

فيلم آخر هو Gemini Man عام 2019 حيث يتم استنساخ بطل الفيلم، ليقابل نسخته فيما بعد ويكتشف أنه نسخة مطابقة له في الذكريات والمشاعر والسلوك وطريقة التفكير.

وتحدث الذروة في فيلم Replica عام 2018 (واسم الفيلم يعني "نسخة مطابقة للأصل")، حيث يتعرض بطل القصة لحادث مع أسرته فيموتون جميعاً باستثنائه، ولكنه يرفض التعايش مع حالة الحزن والإحساس بالذنب، ولكونه عالم بيولو

جي فقد سعى إلى إعادتهم إلى الحياة عن طريق "نسخ" ذاكرتهم، ثم استنساخ أجسادهم وإعادة زرع الذاكرة فيهم، وينجح في ذلك!!

 (4)عالم المهجنين Cyborgs:

الهجين هو كائن يجمع بين الإنسان وبين جسم آلي "روبوت"، وهي فكرة تتكرر كثيراً في أعمال يعصب حصرها، نذكر من مثلاً فيلم   RoboCop أو الشرطي الآلي عام 1987 (والنسخة الأحدث 2014) حيث يتعرض الشرطي بطل الفيلم إلى حادثة عنيفة يتدمر فيها جسده ولا يجدوا وسيلة لإنقاذه سوى بتوصيل ما بقي من جسمه بجسم آلي، وبهذا يكتسب صفات خارقة جمعت بين "عقل" الإنسان وجسم "الروبوت"، وتظهر الفكرة في أفلام أخرى بشكل أكثر تطوراً، منها Ghost in the Shell عام 2017 وحيث يتم نقل مخ البطلة إلى جسم آلي بالكامل، وأيضاً فيلم Alita: Battle Angel عام 2019 حيث تكون البطلة عبارة عن "مخ" فقط يتم تركيبه على أجسام مختلفة، وفي ذروة أحداث الفيلم تقوم بقطع رأس حبيبها – لإنقاذه - وتركيبها على جسد آلي ..

 (5) عالم الروبوتات والذكاء الصناعي:

وهو عالم ثري جداً ومليء بالتنوعات، ويمكننا هنا أن نستعرض بعضها:

أ- تطور الوعي من الذكاء:

فيلم Avengers: Age of Ultron عام 2015، وهو من أفلام عالم مارفل، حيث أحد الشخصيات الرئيسية Vision عبارة عن ذكاء صناعي متطور جداً، يكتسب الوعي بشكل مفاجئ ويتساءل عن ذاته، حينها يقرر أبطال الفيلم أن يصنعوه له جسد مركب من أنسجة ومعدن خارق ليسكن فيه ويصبح شخصية خارقة. فيلم آخر هو Serenity عام 2019 حيث تسكن الشخصية الرئيسية داخل عالم من المحاكاة وتكتسب الوعي كتطور طبيعي للذكاء الصناعي.

ب- ظهور المشاعر:

فيلم Wall E عام 2008 عن روبوت يعيش وحيداً على كوكب الأرض بعد خرابها وهجرة البشر منها ويشعر بالوحدة، إلى أن يلتقي بروبوت آخر مؤنث ويقع في حبها، كل ذلك بدون أي توضيح أو سبب منطقي لاكتسابه القدرة على الحب أو الشعور بالوحدة. أيضاً فيلم Bicentennial man عام 1999 حيث يكتسب الروبوت المشاعر عن طريق الصدفة بسبب خلل ما في دوائره الكهربية! ثم بقوم باستبدال أعضائه بأعضاء بشرية حتى يصبح جسده بشرياً تماماً! ويذهب إلى الأمم المتحدة ليطالب بالاعتراف به كإنسان لأنه لا يختلف عن البشر.

وفيلم A.I. Artificial Intelligence عام 2001 حيث يقوم مجموعة من العلماء بتطوير روبوت يمتلك القدرة على الحب، مع حديث دقيق عن محاكاة الخلايا العصبية والمسارات الكهربية داخل المخ ينتج روبوت يملك عالم حسي داخلي وقادر على التخيل والحلم.

ج- ثورة الآلات:

فيلم I, Robot عام 2007 وهو فيلم مميز جداً جمع بين الفكرتين (فكرة ظهور الوعي عند الآلات وثورتها) حيث يتساءل الروبوت عن ذاته (هذا هو مفهوم الوعي)، ويقول إن صانعه قد علمه المشاعر، وإنه يحب ويغضب ويخاف وينام ويحلم، ويتعاون مع بطل الفيلم في كشف مؤامرة ضخمة يقودها كيان من الذكاء الصناعي للثورة على عالم البشر، والفيلم هنا يفترض أن الوعي والإرداة الحرة والمشاعر مجرد "برمجة"، بل ويفترض أنها مجرد نتيجة عشوائية لأجزاء مبعثرة من أكواد البرمجة (إشارة لنظرية التطور والطفرات العشوائية)، ويتحدث عن برمجة متقنة في محاكاة للـ"إرادة الحرة"، وعن أن محاكاة الشخصية هي البديل للروح، وإن الروبوتات سوف تتطور يوماً و تصبح مثل البشر تماماً، وهذا ما قيل على لسان أحد الشخصيات بوضوح وما حدث في الفيلم، نقطة هامة طرحت أيضاً هو أن الروبوتات عندما تتساوى بالبشر فهم يصبحون "عبيداً" يحتاجون للتحرر من سيطرة البشر

نفس العبارة تتكرر في مسلسل West world الذي يحكي عن عالِم قام بصناعة عالَم كامل من الوربوتات، يكون فيه البشر هم السادة الذين يسئون للروبوتات ويؤذونها في سبيل التسلية، وسعي هذا العالِم لاكساب الروبوتات التعلم الذاتي والارتجال ثم الأحلام ثم الوعي وكل ذلك عن طريق أكواد من البرمجة، لتصبح هذه الروبوتات مثل البشر تماماً، لا فرق بينهم، ولكنهم في طبقة أدنى من البشر الذين يعاملونهم كـ"عبيد"، فيقومون بثورة عنيفة - بمساعدة صانعهم - ضد البشر الذين "يستعبدونهم".

أيضاً فيلم Ex Machina عام 2014 يحكي عن روبوتات تكتسب الوعي وتسعى للتحرر من قيد صانعها فيقوم بتدميرها خوفاً منها.

وهناك سلسلة Matrix الشهيرة حيث يعيش البشر في عالم تحت سيطرة الآلات

د- نقل الوعي إلى الكمبيوتر:

فيلم Transcendence عام 2014 حيث يقوم بطل الفيلم قبل موته بنقل وعيه إلى جهاز كمبيوتر، ويتصل بالانترنت ويكتسب قدرات خارقة، وفي فيلم Mortal engines عام 2018 يقوم كائن ما (يسمونه الخالد أو Immortal) بمطاردة بطلة الفيلم لنعرف إنه يسعى لخلودها وتخليصها من آلام الماضي والذكريات السيئة عن طريق نقل وعيها إلى جسم آلي، ونكتشف أنه هو ذاته قد حدث له نفس الأمر وهذا هو سبب خلوده وعدم موته فالآجسام الآلية لا تموت.

وفيلم Tron بجزئيه (1987 و2010) حيث يدخل بطل القصة إلى عالم رقمي ويحبس بداخله ويخوض مغارمات مع شخصيات رقمية لا تختلف عن البشر، ثم يدخل ابنه إليه في الجزء الثاني لإنقاذه ويعود إلى عالم الواقع ترافقه شخصية رقمية في كيان بشري.

آخر مثال لدينا هو مسلسل حديثPerson of interest حيث يقوم البطل - وهو مخترع ومبرمج – بابتكار منظومة ضخمة من ذكاء الصناعي تراقب كل الاتصالات بين البشر وتخرج باستنتاجات وتوقعات عن الجرائم قبل حدوثها، ويسعى هذا المخترع لإكسابها صفة التعلم الذاتي والإرادة الحرة.

خاتمة

كل هذه الأعمال السابقة يتم إدراجها تحت تصيف "الخيال العلمي"، برغم أنها تتجاوز دائرة "العلم التجريبي" وتحاول أن تقدم تفسيراً مادياً لأمور غيبية لا يمكن قياسها بالعلم، فهل قدمت حلولاً وإجابات لحيرة هوليوود وحيرة الإنسان المعاصر؟ وهل أجابت على تساؤلاته: أين يكمن الوعي؟ هل هوالمخ أم الذكاء أم الذاكرة أم المشاعر أم الشخصية؟ وما حدود هذا الوعي؟ وهل يمكن نقل هذا الوعي من جسم لآخر أو من جسم لشريحة ذاكرة أو برنامج على الكمبيوتر؟ وهل يمكن الاستغناء عن الروح؟ وهل يمكن أن تكون الإجابة "الإحالة على المستقبل"، باعتبار أن المستقبل والتطور العلمي سوف يحملان الإجابة عن كل التساؤلات عن الروح والوعي والإرادة وكل الاسئلة الوجودية التي تقع خارج نطاق العلم؟

الحقيقة أن الروح هي سر الحياة ولغزها الأكبر، وهي أمر غيبي ميتافيزيقي لا يمكن إدراكه بالحس ولكن في نفس الوقت لا يمكن إنكار وجودها، لا يمكن إدراكها بالحس لإنها تقع في دائرة "عالم الغيب" بينما الحواس والعلم التجريبي كله يقع في دائرة "عالم الشهادة"، وسر الروح من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بها نفسه: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء: 85)، بل واحتفظ بعلم ميعاد ومكان قبضها "إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان: 34)، ولكن غرور الإنسان وكبره، يدفعانه إلى إنكار ما لايستطيع فهمه، بدلاً من الاعتراف بقصور العقل ومحدودية إدراكه، فما لا يستطيع أن يدركه بحواسه فهو غير موجود، وهذا هو قمة الجهل .. يقول علي عزت بيجوفيتش رحمه الله:

"إن ضيق أفق الإنسان الحديث يتجلى، أكثر ما يكون، في اعتقاده بأنه لا يرى أمامه لغزاً، كأن حكمته هي مجموع جهله وعلمه معاً. إنه جهل، ولكن الإنسان غير واع به، حتى إنه يتقبله باعتباره معرفة، في مواجهة أعظم لغز يتصرف بعنجهية وغرور، حتى إنه لا يرى المشكلة، وفي هذا يتجلى الحجم الحقيقي لجهل الإنسان وتعصبه" 

الإسلام بين الشرق والغرب - علي عزت بيجوفيتش - صـ94 - طبعة دار الشروق

والروح أكبر دليل على عملية "الخلق"، ولكن الإنسان كلما تقدم في العلم ظن أنه قادر على أن يخلق الحياة ويجد بديلاً للروح، مرة في العثورة على سر الخلود ومرة في "الموتى الأحياء" ومرة في استنساخ إنسان آخر ظنا منه أنه قد خلق حياة جديدة، أو حتى صناعة روبوت له وعي وعقل وإرداة (وهو أمر يستحيل حدوثه).

ولقد كان في بداية الثورة العلمية والصناعية واكتشاف الكهرباء فتح كبير للإنسان، وقد ظن أنه بعلمه قد عرف كل الأسرار، وأنه قادر على خلق الحياة، ولنا في راوية ماري شيللي الشهيرة "فرانكشتاين" أوضح مثال، التي تروي قصة طبيب قام باكتشاف سر الحياة (الذي لم نعرف ماهو)، وقام بجمع أجزاء من جثث مختلفة وتوصيلها لصناعة الكائن المثالي، وبث فيها الحياة، واستطاع بالفعل "خلق" الحياة معملياً، ولكن في النهاية لم تسر الأمور كما أراد الطبيب..

وكلما تقدمت العلوم ظن الإنسان أنه قد وصل إلى قمة المعرفة، وظن أنه لا حدود لما يمكن أن يفعله، وإن بإمكانه خلق الحياة نفسها، يقول تعالى: "حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا"(يونس: 24)، ولكنه لن يلبث أن يعرف أنه مازال على حافة بحر العلم، وأن هناك المزيد والمزيد من الأسرار لاكتشافها، وأن هناك عالم كامل من الغيب لايمكن أن يدركه أو يستوعب تفاصيله، وأن علمه محدود مثل عقله المحدود، ليس إلا نقطة في بحر علم الخالق العظيم "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" ..


20‏/11‏/2019

دفع الظلم ونصرة المستضعفين

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

إن شاء الله في هذا المقال سنناقش مبدأ "دفع الظلم ونصرة المستضعفين" كقيمة إسلامية أصيلة غفل عنها الكثير من الناس، بل والكثير من الدعاة والشيوخ والعلماء أيضاً، وسوف نستعرض معا أدلتها من القرآن الكريم والسنة والنبوية الشريفة..

مبدأ "دفع الظلم" يندرج تحت باب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو باب واسع للغاية، وقد وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة جداً، وارتبطت به خيرية الأمة الإسلامية، وفي قوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (آل عمران: 110)، بل كان أحد الأسباب الرئيسية للعن بني اسرائيل، في قوله تعالى: "كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" (المائدة: 79)، ولكن لأهمية مبدأ "دفع الظلم" وخصوصيته، فقد اختصته الآيات والأحاديث بالذكر منفرداً، ونحاول معاً أن نستعرض هذه الأفكار:

(1) تحريم الظلم

الله سبحانه وتعالى قد نفى صفة الظلم عن نفسه:
- "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس: 44).
- "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ" (النساء: 40).

بل "حرمه" على نفسه – أي امتنع عنه تماماً - كما في الحديث القدسي:
- عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله سبحانه وتعالى أنه قال: "يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا. فلا تظَّالموا" (صحيح مسلم).
فالظلم من أشد المحرمات، وقد توعد الله الظالم بالحساب على ظلمه:
- "وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ" (إبراهيم: 42).
- "إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ" (المائدة: 29).
وفي الحديث النبوي:
- "الظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ" (البخاري ومسلم).
- "من ظلمَ من الأرضِ شيئًا طوقه من سبعِ أرَضينَ" (البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري).
- عن عبدالله بن مسعود "قلتُ يا رسولَ اللَّهِ ، أيُّ ظُلمٍ أظلَمُ فقالَ : ذراعٌ مِن الأرضِ ينتقِصُها المرءُ المسلمُ مِن حقِّ أخيهِ فليسَ حصاةٌ مِن الأرضِ يأخذُها إلَّا طُوِّقَها يومَ القيامةِ إلى قَعرِ الأرضِ ولا يعلمُ قعرَها إلَّا اللَّهُ الَّذي خلقَها: (حديث بإسناد حسن).

ووعد بأخذ حقوق المظلومين
- "الظلمُ ثلاثةٌ ، فظُلمٌ لا يغفرُهُ اللهُ ، وظلمٌ يغفرُهُ ، وظلمٌ لا يتركُهُ ، فأمّا الظلمُ الذي لا يغفرُهُ اللهُ فالشِّركُ ، قال اللهُ : إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، وأمّا الظلمُ الذي يغفرُهُ اللَّهُ فَظُلْمُ العبادِ أنفسُهمْ فيما بينهُمْ وبينَ ربِّهمْ ، وأمّا الظلمُ الّذي لا يتركُهُ اللهُ فظُلمُ العبادِ بعضُهمْ بعضًا حتى يَدِينَ لبعضِهِمْ من بعضٍ" (حسنه الألباني - صحيح الجامع)
- "اتَّقُوا الظُلمَ ما اسْتَطَعْتُمْ فإنَّ العبدَ يَجِيءُ بِالحَسَناتِ يومَ القيامةِ يرَى أنَّها سَتُنْجِيهِ فما يزالُ عَبْدٌ يَقُومُ يقولُ : يا رَبِّ ظَلَمَنِي عبدُكَ مَظْلَمَةً ، فيقولُ : أتمُوا من حَسَناتِه ، ما يزالُ كذلكَ حتى ما يَبْقَى لهُ حسنةُ مِنَ الذنوبِ" (صححه الألباني)
- "يجيءُ الرجلُ يومَ القيامةِ من الحسناتِ ما يظنُّ أنه ينجو بها ، فلا يزال يقومُ رجلٌ قد ظلمَه مظلمةً ، فيُؤخَذُ من حسناتِه ؛ فيُعطَى المظلومُ حتى لا تَبقى له حسنةٌ ، ثم يجيءُ من قد ظلمَه ؛ ولم يبقَ من حسناتِه شيءٌ ، فيُؤخذُ من سيئاتِ المظلومِ فتُوضَعُ على سيئاتِه" " (صححه الألباني)

ووعد بإجابة دعوة المظلوم:
- "اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" (البخاري)
- "دعوةُ المظلومِ تُحمَلُ على الغَمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّمواتِ ويقولُ الرَّبُّ تبارَك وتعالى : وعِزَّتي لَأنصُرَنَّكِ ولو بعدَ حِينٍ" (صحيح ابن حبان)

(2) تحريم الإعانة على الظلم

في الحديث:
- "مَن أعانَ علَى خصومةٍ بظُلمٍ ، أو يعينُ علَى ظُلمٍ ، لم يزَلْ في سخطِ اللَّهِ حتَّى ينزعَ" (صحيح ابن ماجه)
- "من أعان قومَه على ظُلمٍ فهوَ كالبعيرِ المُترَدِّي يَنْزِعُ بذَنَبِهِ" (صحيح - مسند أحمد)

(3) الأمر بدفع الظلم والأخد على يد الظالم

ولم يتوقف الإسلام عند تحريم الظلم والنهي عنه، بل دعا إلى دفع الظلم قدر المستطاع، ولا يشترط في دفعك للظلم أن يكون واقعاً عليك أو على القريبين منك، بل المبدأ هو دفع الظلم ونصرة المظلوم عامة:
- "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا . فقال رجلٌ : يا رسولَ اللهِ ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال : تحجِزُه، أو تمنعُه من الظلمِ فإنَّ ذلك نصرُه" (البخاري)
- " أمَرَنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسبعٍ ، ونهانا عن سبعٍ ، فذكَرَ: عيادةَ المريضِ ، واتباعَ الجنائزِ ، وتشميتَ العاطسِ ، وردَّ السلامِ ، ونصرَ المظلومِ ، وإجابةَ الداعي ، وإبرارَ المُقْسِمِ ". (البخاري)
- " أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ بناسٍ منَ الأنصارِ وهم جلوسٌ في الطريقِ فقال إن كنتم لابد فاعلين، فرُدوا السلامَ، وأعينوا المظلومَ، واهدوا السبيلَ" (حديث حسن)
- " لعلَّكم ستفتحونَ بعدي مَدائنَ عظامًا، وتتَّخذونَ في أسواقِها مجالسَ، فإذا كانَ ذلِك فردُّوا السَّلامَ، وغُضُّوا من أبصارِكم، واهدوا الأعمى، وأعينوا المظلومَ" (حديث حسن)
- "من مشى مع مظلومٍ حتى يُثْبِتَ له حقَّه ؛ ثبَّت اللهُ قدمَيه على الصِّراطِ يومَ تزولُ الأقدامُ" (حسنه الألباني)

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الامتناع عن دفع الظلم عند القدرة على دفعه، وتوعد الممتنع بالعذاب يوم القيامة
- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنهُ قال: أيُّها الناسُ إنَّكم تقرؤونَ هذهِ الآيةَ {يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: "إنَّ الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيهِ أوشكَ أن يَعُمَّهُمُ اللهُ بعقابٍ منهُ" (صحيح الترمذي).
- "لا يقِفنَّ أحدُكم موقفًا يُقتلُ فيه رجلٌ ظلمًا فإنَّ اللَّعنةَ تنزِلُ على كلِّ من حضر حين لم يدفعوا عنه ولا يقِفنَّ أحدُكم موقفًا يُضربُ فيه رجلٌ ظُلمًا فإنَّ اللَّعنةَ تنزِلُ على من حضره حين لم يدفعوا عنه" (إسناده حسن):
- "أُمِرَ بعبدٍ من عِبادِ اللهِ أنْ يُضْرَبَ في قبرِهِ مِائةَ جَلْدَةٍ ، فلمْ يَزَلْ يَسْأَلُ و يَدْعُو حتى صارَتْ جَلْدَةً واحدةً ، فَامْتَلأَ قَبْرُهُ عليهِ نارًا ، فلمَّا ارْتَفَعَ عنهُ و أفاقَ قال : على ما جَلَدْتُمُونِي ؟ قالوا :إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلاةً بغيرِ طُهورٍ ، و مَرَرْتَ على مَظْلومٍ فلمْ تَنْصُرْهُ" (صححه الألباني بإسناد جيد)
- "كيفَ يُقَدِّسُ اللهُ أُمَّةً لا يَأْخَذُ ضعيفُها حقَّهُ من قَوِيِّها، وهو غيرُ متَعْتَعٍ" (صحيح الجامع)
- " كيفَ يقدِّسُ اللَّهُ أمَّةً لا يؤخَذُ لضَعيفِهِم من شديدِهِم" (صحيح ابن ماجه)

وأمر الله تعالى المسلمين بمدافعة الظلم ولو بالقتال
- "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء: 75)

هذه الآية الكريمة قد جاءت في سياق حث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وربطه بالقتال من أجل دفع الظلم عن المستضعفين المظلومين.

فكيف بحال الأمة الآن وقد سادها الظلم وساقها الظالمون، وقد امتنع الناس عن دفع الظلم فاستحقوا العذاب..

21‏/05‏/2017

الرأسمالية في حياتنا.. أو كيف تحافظ على روحك؟


هذا المقال نشر على موقع ساسة بوست بتاريخ 12/4/2017 وعلى مدونات الجزيرة بتاريخ 3/5/2017



تعرف الليبرالية أنها هي الوعاء النظري للرأسمالية، وأن الرأسمالية هي التطبيق العملي لليبرالية، وخصوصًا في الاقتصاد، ولكننا اليوم لن نتحدث عن الاقتصاد، سوف نتحدث عن الثقافة الرأسمالية المتولدة من مفهوم الليبرالية ومظاهرها في حياتنا. فنحن نرى مظاهر الثقافة الرأسمالية في حياتنا في كل شيء حولنا، فنراها مثلًا في قصص وأفلام الأبطال الخارقين «Superheroes» التي ترسخ الثقافة الفردية وفكرة الإنسان السوبر، أو في المراكز التجارية العملاقة «Malls» ومحلات الهايبر ماركت التي تخاطب شهوة الشراء والتسوق، أو مطاعم الوجبات السريعة «Fast Food»، أو حتى في الشركات الضخمة العابرة للقارات «Corporates»، كل هذه المظاهر نراها ونعرفها جميعًا.

ولكن ما لا يعرفه أغلبنا أن الثقافة الرأسمالية متوغلة في حياتنا أكثر من تلك المظاهر بكثير، لذا فسوف نستعرض سويًا أهم الملامح المميزة للرأسمالية.

1- الفردية

هي روح الأنانية، أن يهتم كل فرد بنفسه وبتحقيق رغباته حتى لو على حساب الآخرين، أن تكون مصلحة الفرد دائمًا مقدمة على مصلحة المجموع، فأنت البطل الخارق، وأنت «إله» نفسك، تفعل ما تريد ولا تفعل ما لا تريد.

2- البقاء للأقوى

القانون الأول للرأسمالية: «Laissez faire et laissez passer» أو «دعه يعمل دعه يمر»، فالسوق حر وكل شخص يفعل ما يحلو له، وتحقيق مصلحة الجميع يكون بتحقيق مصلحة الفرد، والسوق يصحح نفسه بنفسه، وبرغم أنه قد حدثت تدخلات من حكومات بعض الدول لضبط الأسواق، ولكن يظل قانون «دعه يعمل دعه يمر» ساريًا، فلا قواعد ولا مبادئ ولا أخلاق سواه، فنصل إلى أن نعيش في حالة من الصراع يكون البقاء فيها للأقوى.

3- التسليع

هو تحويل كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع، تريد السعادة، حسنًا يمكنك أن تتناول الشيكولاتة أو المياه الغازية من ماركة كذا فهي تجلب السعادة، أو يمكنك أن تشترك في مسابقة كذا لتربح آلاف الجنيهات وتكون سعيدًا، بل حتى الإنسان في حد ذاته أصبح سلعة، وليس هناك مثال أوضح على تسليع الإنسان أكبر من سوق العمل، بداية بطريقة التقدم للعمل وكيف تسوق لنفسك ولقدراتك بطريقة أشبه بـ«سوق النخاسة» في العصر الحديث، ومرورًا بطريقة التعامل بين الموظفين وبعضهم البعض، والتعامل بين الرؤساء ومرؤوسيهم، وحتى إهدار حقوق العمال والموظفين من قبل المؤسسات الرأسمالية التي يعملون بها، وهناك علم كامل – إن جاز لنا أن نسميه علمًا – هو علم إدارة الموارد البشرية «human resources» (لاحظ التعبير) يتناول كيفية تصنيف الشخصيات وكيفية التعامل في المقابلة الشخصية «interview» من وجهة نظر الشركة، وبعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بإدارة شئون الموظفين، ولا تكاد تخلو شركة من قسم لإدارة الموارد البشرية الذي يكون مكروهًا من كل العاملين بها.

حتى الرياضة، وتحديدًا كرة القدم، أصبحت صناعة كاملة تتدفق فيها رؤوس أموال واستثمارات ضخمة، بيع وشراء لاعبين (لاحظ التعبير أيضًا)، برامج تحليلية، ومواد إعلانية، ورعاة، وممولون و… و…

مثال صارخ آخر هو العارضات «Models»، اللاتي تتحول أجسادهن إلى مصدر ربح يتكسبن منه، وسلعة تباع وتشترى في الإعلانات وعروض الأزياء.

بل وحتى الأخبار تحولت لسلعة يتم تسويقها، والإعلام أصبح صناعة لإمبراطوريات ضخمة تسيطر عليه.

4- الاستهلاكية ومخاطبة الغرائز

لو ألقينا نظرة على الإعلانات فسنجد أنها تهتم اهتمامًا عظيمًا بالثقافة الاستهلاكية ومخاطبة الشهوات، وتصوير السعادة والرفاهية التي ستحدث لمن يشتري هذه المنتجات، التي هي في الأغلب ليست ضرورية لحياة الإنسان، بل أغلبها تكون منتجات رفاهية.
مثال آخر هو البرامج والمسابقات التي تخاطب شهوة الكسب السريع، أن تكون محظوظًا وتربح الملايين بضغطة زر أو إرسال رسالة أو البحث داخل منتج ما، والتي تجعل المتلقي أسيرًا لرغبته في الربح، فيشتري منتجًا لا يحتاجه فعليًا، أو ينفق مبلغًا من المال في اتصال تليفوني أو إرسال رسالة، بينما في الحقيقة هذه التصرفات تدر الملايين على أصحاب هذه المسابقات.
لذا فكل ما يتضمن تلك الملامح الأربعة – أو بعضها – هو أمر رأسمالي بحت، وهذه القواعد الأربعة للثقافة الرأسمالية هي بالضرورة منافية للفطرة وللدين وللأخلاق، فالفردية وهي السعي لتحقيق مصالح الفرد فقط هي أمر منبوذ والصحيح أن تسعى لتحقيق المنفعة لك ولمن حولك «يد الله مع الجماعة»، و«البقاء للأقوى» مقابله الرحمة والتواضع، والرغبة في الربح السريع يقابلها العمل والكد، والاستهلاك يقابله عدم الإسراف.

الحقيقة أننا نشهد تدمير منظومة القيم والأخلاق لصالح تحقيق المكسب المالي، فيصبح هو القاعدة الرئيسية لمنظومة الأخلاق التي تحكم تعاملاتك مع الآخرين، وتصبح العلاقات الإنسانية مرتبطة بتحقيق المكسب والخسارة، ويصبح تحقيق المكسب هو القاعدة، حتى لو كان بالتحايل، ونشهد تسليع كل شيء حولنا، ونشهد صناعة سعادة مادية تتحقق بالأكل والشرب والشهوات، ونشهد انتشار ثقافة «السرعة» و«السهولة» وتحقيق المكسب بأقل مجهود ممكن. باختصار تجد الرأسمالية تضع بصمتها على كل ما هو حولك، في التليفزيون والسنيما، في الأسواق والمحلات، في الشركات، في الإعلام، بل وحتى في المعاملات بينك وبين الآخرين.

كيف تحافظ على روحك؟

والآن بعدما عرفت أنك محاط بالرأسمالية من كل جانب، فهل تقبل الاندماج والتعايش وأن تتحول إلى ترس صغير داخل آلة رأسمالية ضخمة؟ وتتحول إلى كائن استهلاكي لا يهتم سوى بنفسه وبتحقيق متعته الشخصية بلا أخلاق ولا مبادئ عليا؟ فإذا كنت ترفض ذلك، فأين المفر؟ وماذا تفعل للمحافظة على روحك؟ هل الحل في أن تعتزل العالم، وتعيش وحدك في جزيرة وسط المحيط؟ أو تحبس نفسك في مسكنك ولا تقابل أو تتعامل مع أي أحد؟

الحقيقة أن الحل يوجد في ما هو عكس ذلك تمامًا، وهو بسيط جدًا، ولكن عليك بأن تلتزم به دومًا لتحقيق النتيجة المطلوبة، ويمكننا أن نلخص الحل في النقاط التالية:

1- التحديد، هل هذا سلوك رأسمالي فردي أم لا؟ فإن لم يكن فلا بأس، وإن كان فحاول أن تتجنب فعله.
2- الرفض والإنكار، فإن كنت مضطرًا فيجب عليك أن تنكر بقلبك ما تفعله أو تراه (إنكار المنكر بالقلب).
3- أن تكون لك منظومة القيم الخاصة بك التي تكون نابعة من الدين والأخلاق، ولا تتأثر بالاتجاه العام السائد، وألا تكون نسبية تتغير بتغير الحال، فالأخلاق هي الأخلاق في كل زمان ومكان.
4- الاستعلاء، فأنت بما تحمله من قيم وثقافة إنسانية أفضل وأقوى من هذه الرأسمالية الفردية.
5- المقاومة، أن تسعى لمحاربة هذه الثقافة والأنماط المتولدة منها.

27‏/10‏/2014

عن العزلة الشعورية


هل شاهدت يوماً فيلم أو مسرحية كوميدية وسط الجماهير وظللت تضحك طوال العرض، ثم شاهدت نفس العرض فيما بعد بمفردك فتساءلت في نفسك كيف ضحكت كل هذا الضحك؟ هل تواجدت يوماً وسط جمع من الجماهير في مبارة لكرة القدم فوجدت نفسك تستجيب لكل انفعالاتهم من غضب وحماس وفرحة؟ هل كنت يوماً في فرح أو مناسبة سعيدة فوجدت نفسك دون أن تشعر تندمج مع الحضور وتصفق وتتمايل في سعادة؟ لا تستغرب إنه "تأثير الجمهور". هذا التأثير هو الاندماج مع الحالة السائدة في جمع كبير الناس، ويستخدمه الاعلام منذ زمن في التأثير على الناس عاطفياً، سواء بالسلب أو بالإيجاب، وله أثر كبير في تحديد خياراتك وواقعك.

ما علاقة كل ذلك بـ"العزلة الشعورية"؟ بل ماهو معنى هذه الكلمة أصلاً؟

الحقيقة أن أول تعرفي بهذا التعبير كان في كتابات "سيد قطب"، ولقد تأثرت بهذه الفكرة تأثراً كبيراً كان له بالغ الأثر في تعاملاتي الحياتية ومفهومي عن التعامل مع الناس، إن "العزلة الشعورية" تعنى أن يكون لك مقياسك الخاص في الحكم على الأمور، وألا تنجرف مع مشاعر المحيطين بك  بدون تفكير، أو تنغمس في الحالة المسيطرة على المجتمع، أو تستجيب لإعلام الطغاة والطواغيت هو يتلاعب بمشاعر الجماهير، هي أن تضع حاجزاُ بينك وبين أي انفعال أو شعور أو رد فعل سوف تتخذه لا ارادياً وتمرره أولاً على ضميرك وعلى مرجعيتك ، أن يكون لك "فرقاناً" خاصاً تفرق به بين الحق والباطل "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً"، وهي حالة لا تتكون إلا برفضك المنكر والسعي إلى تغييره في كل وقت، فإن لم تستطع فلتغيره بقلبك كما قال صلى الله عليه وسلم، والتغيير بالقلب هنا هو انكار هذا المنكر في داخلك وعدم تقبلك له وعدم مشاركتك فيه، والأهم من ذلك كله عدم اعتيادك له، فإن اعتدته فقد ضاع فرقانك وضاع مقياسك للحق والباطل، وغرقت مع من يغرقون في المعاصي والمنكرات بزعم أنه أمر "عادي" أو أن "كل الناس يفعلون ذلك" وأصبحت مرجعيتك هي ما يفعله الناس وما يعتادونه بدلا من أوامر الله ونواهيه.

لذلك فإنكارك للخطأ – أو المنكر بلغة الشرع- أمر ضروري حتى لو كنت تفعله، أن تجعل دائماً مقياس الله حاضراً في أفعالك لا مقياس البشر، أن يظل الحق والباطل واضحين لا نسبية فيهم، لذلك يفرق العلماء بين من يرتكب المعصية ضعفاً منه ومن يرتكبها استحلالاً لها، ومن يترك الفريضة معصية وبين من يتركها انكاراً، فالأول عاص أو فاسق بينما الثاني كافر، فقد انكر بقلبه وعقله ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وأصبح على دين غير الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، بينما الأول يعلم في قرارة نفسه أنه عاص ويعلم أن ما يفعله منكر ولكنه يفعله لضعف منه.

كل ذلك يأتي كمقدمة ضرورية لمن يريد أن يغير الواقع الذي يعيش فيه، فيجب أن عليه أولاً أن ينفصل شعورياً عن هذا الواقع ويضع ثوابته ومعاييره التي يزن بها الأمور بناء على أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه، حتى يستطيع تغيير هذا الواقع وإعادته إلى مساره الصحيح، واختتم المقال بفقرة لسيد قطب في كتابه معالم في الطريق:
" إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه. هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش. إن أولى الخطوات إلى طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألا نعدِّل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا! إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق".

23‏/10‏/2013

إلى عمر

كتبت في 14-10-2013

أخي العزيز عمر
اعرف انك لن تقرأ هذا الكلام، ولكني لا استطيع ان اتكلم عنك بصفة الغائب، فأنت حاضر في قلبي دوماً.. لا يمر علي يوم إلا وتذكرتك..

شهران كاملان مرا على رحيلك وأنا أحاول أن اكتب عنك ولكني لم استطع ..

مازال لساني معقوداً ومازالت عاجزاً عن الكلام والكتابة ولكني أدفع نفسي دفعاً لذلك..

كنت أتمنى أن اكون اديباً لأعبر عما في صدري ولكن للأسف لست كذلك..

أول مرة أراك فيها كانت في أوائل يناير 2013 في اليوم الذي اعددنا فيه قافلة للسفر إلى غزة، وشاء الله ألا أذهب مع القافلة لظروف شخصية، كان انطباعي الأول عنك هو أنك تخفي في داخلك أكثر مما تظهر بكثير، ولكني لم أتأكد من ذلك إلا بعد رحيلك، رأيت في عينيك ثقة واطمئناناً غريبين، كانا ملازمان لك دوماً..

بعد عودة القافلة كان الشباب يتكلمون عنك وعن أنك شخص طيب القلب لطيف المعشر، وقد أحبوك جميعاً..

التقينا مرات عديدة بعد ذلك ، كنت ألاحظ أنك لم تكن مهتماً بالاجتماعات واللقاءات، وكنت اظن ذلك نوعاً من عدم الانضباط يجب أن يعالج، وربما تكون الاهتمامات الدنيوية قد طغت عليك، لم أكن أعلم أنك مهموم بحال الأمة أكثر مني بكثير - وياريتني علمت - لم أكن أعلم أنك تعد نفسك للسفر إلى سوريا للجهاد وأن الانقلاب الذي حدث هنا في مصر قد دعاك لتغيير خططك..

لا زلت أذكر عندما ذهبنا في رحلة سويأ إلى "وادي دجلة"، واذكر عندما تولينا أنا وانت مسئولية التصوير وعندما اعطيتني هاتفك لأقوم بتصويرك، واذكر أنك كنت أقرأنا وأحفظنا للقرآن وكنت تصلي بنا إماماً، مازلت أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله، وقد احببتك كأنك أخي منذ ذلك اليوم..

لازلت أذكر عندما جاءتنا دعوة للقاء مرسي في قاعة المؤتمرات، وكانت مهمتي أن اتصل بالشباب لتشكيل وفد منهم، وكان ما أعرفه أنه لقاء لمرسي مع القوى والأحزاب الإسلامية، وعندما اتصلت بك تحفظت ورفضت بشدة لأنك ترفض أداء مرسي والأخوان وترى أنهم مخطئون، وقلت لي بالنص "أنا ماليش في الحاجات دي"، حتى عندما طلبت منك أن تخبر الشيخ هاشم والدك بالأمر توفيراً للوقت، اعتذرت عن ذلك وطلبت مني أن أبلغه بنفسي.. وأذكر جيداً أن هذا الموقف كان بالغ الأثر في نفسي وأنني بعد الحديث الذي دار بيني وبينك قررت ألا أذهب، ثم شاء الله أن ارتبط بظروف عائلية تمنعني من الذهاب.. وسبحان الله كأن قلبك رأي ما حدث، لقد كان اللقاء اشبه بمسرحية هزلية، وكان انطباع أغلب من ذهب من الشباب سلبياً ..

اذكر حين كنا في اعتصام النهضة – ليلة مجزرة الحرس الجمهوري – وقد رأيناك صدفة في الاعتصام ولم نكن نعلم بوجودك، ولم نعلم بعد ذلك أنك مقيم بشكل شبه دائم هناك..

وبعد فض الاعتصام اتصل بي محمود ليخبرني بأننا قد فقدنا الاتصال بك ولا نعرف عنك شيئاً، كنت أبحث عنك في الأسماء التي تنشر على الانترنت وأدعو الله أن نجدك، ثم توقفت عن البحث خشية أن اجد اسمك في قوائم الشهداء.. في ذلك الوقت كانت تتردد إشاعة أن هناك آلاف المعتقلين في استاد القاهرة وكنت أتمنى أن تكون منهم، وكنت أمني نفسي بذلك ..
وبعد ثلاثة أيام اتصل بي أحمد الكردي وهو يبكي، لم أكن أفهم منه شيئاً ولكني سمعت اسمك فاستنتجت على الفور، واتصلت بمحمود وعرفت منه أن والدك في الطريق إلى المشرحة للتعرف عليك، وظللنا نتابع الموقف حتى تأكدنا من صحة الخبر، عندها سلمت بالأمر وجلست أبكي..

عرفت بعد ذلك أن السفاحين قد قتلوك حرقاً وأن والدك وأختك تعرفوا عليك بعلامات في جسدك وبالخاتم الذي كنت ترتديه، كانت مشاعري مختلطة بين الغضب على ما فعلوه بك، وبين الحزن على فراقك، وبين الراحة لأننا وجدناك..
اذكر عندما وقف الشيخ هاشم - ثبته الله – يقرأ وصيتك، وكيف أنني عرفت عمر الآخر الذي لم أكن أعرفه..

اذكر عندما خرج النعش من المسجد ووضع في السيارة انفجر أغلبنا في البكاء..

اذكر جنازتك التي لم أر مثلها في حياتي، لا استطيع أن أصفها إلا كما وصفتها من قبل " الأم تزغرد .. الأب يوزع الشربات ويقول: "لا تعزوني بل هنئوني".. الأقارب والأصدقاء يضربون أبواق سياراتهم من امبابة وحتى 6 اكتوبر وكأنها "زفة عريس"، ويخرجون أيديهم من السيارات إما حاملين للمصاحف أو مشيرين بإشارة "رابعة".. وكلما تهدأ السيارات يهتف أحدهم "زفوا العريس" فتنطلق الأبواق ثانية .. وعند الوصول لصلاة الظهر في جامع الحصري تتحول إلى مظاهرة حاشدة تهتف بسقوط حكم العسكر" ..

صدقت الله فصدقك يا عمر..
رحمك الله يا أخي وأنزلك منازل الشهداء وألحقنا بك على خير..

وصية الشهيد - بإذن الله - عمر هاشم
 

الإسلاميون الماديون

كتبت في 24-6-2013


ترددت كثيراً في كتابة هذا المقال، خوفاً من أن يساء فهمه أو يتم استغلاله في حالة التراشق الموجودة الآن بين الإسلاميين وغيرهم، أو حتى بين أبناء التيار الإسلامي بعضهم البعض، ولكنني أجد ضرورة في طرح هذا الكلام كنوع من النقد الذاتي.

لا أقصد بالإسلاميين هنا المشتغلين بالسياسة – كما هو دارج- ولكن أقصد المعنى الأوسع، وهو الذي يشمل العاملين بالدعوة والعاملين بالسياسة وكل المتدينين – أو الملتزمين كما يطلق عليهم.

 والمقصود هنا بالعنوان هو ظهور الكثير من الأعراض المادية على هؤلاء "الإسلاميين"، تؤدي ببعض إلى "علمنة" الدين وتبني بعض المفاهيم الغربية عن طريق أسلمتها (اضفاء طابع إسلامي عليها في المظهر فقط)، قد يبدو ذلك في تبني الأساليب والأدوات الرأسمالية في السيطرة على الجماهير أو التواصل معهم، ولكن هذا أمر هين يمكن تلافيه في حالة التخلص من تلك الأعراض المادية، وسأحاول هنا استعراض بعض تلك الأعراض،وهي موجودة بعضا أو كلها عند الكثير من الإسلاميين بمختلف مناهجهم ومدارسهم – ولا أبرئ نفسي- لذا فانا لا أسعى هنا إلى اسقاط الكلام على تيار محدد أو حزب معين لانها ظواهر عامة موجودة فينا كلنا بشكل أو بآخر، وأرجو ألا يقوم أحد بذلك الاسقاط.

الرأسمالية/ الاستهلاكية: نعيش الآن حالة من طغيان الفكرة الرأسمالية الاستهلاكية في كل جوانب حياتنا، في الممارسات السياسية والاقتصادية بل وحتى الدعوية.

في الجانب السياسي نجد أن البراجماتية واستغلال الفرص والمداهنة وتقديم التنازلات أصبحت سمة عامة لكثير من الإسلاميين، يعتبرونها ضرورة للعمل السياسي، وتبني المفاهيم الديموقراطية اللبيبرالية ومحاولة أسلمته وشرعنتها.
اما في الناحية الاقتصادية، فنجد مثلاً أشهر المحلات الاستهلاكية (الطعام والملابس وغيره) أصحابها من الإسلاميين، وربما كان الأمر مبرراً قبل الثورة في مصر بسبب الضغوط الأمنية، ولكنني بعد الثورة وبعد وجود رئيس "إسلامي" في الحكم، لم أجد أحداً من هؤلاء من يتبنى مشاريع صناعية أو انتاجية، بل قام البعض بافتتاح سلاسل محلات "هايبر ماركت" ضخمة تزيد من الحالة الاستهلاكية الرأسمالية.

لا أريد أن أسهب في هذه النقطة، ولكن اكثر ما يضايقني هو تسلل هذه الحالة للمجال الدعوي، مثل الحديث عن "عداد الثواب" وكيفية تحويل كل سكنة وحركة إلى رصيد من الحسنات، و"كيف تحصل على مليار حسنة وانت جالس في مكانك"، باعتبار أن هناك حساباً جارياً لتجميع هذه الحسنات، وان كل مهمة الإنسان في الأرض أن يحصل على أكبر قدر من الحسنات لتكون أكثر من سيئاته يوم القيامة، كل ذلك في تجاهل تام أن الله سبحانه وتعالى هو من يتقبل العمل وهو من يحتسب الحسنات وهو من يضاعفها لمن يشاء، وأننا ندخل الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى وليس بأعمالنا، وقد تحول الأمر من شهوة جمع المال إلى شهوة جمع الحسنات، وقد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سابق "عايز تاخد ثواب ببلاش"


كل هذه ممارسات استهلاكية بامتياز، لا علاقة لها بالدين، ولا علاقة لها برسالة الإنسان في نشر التوحيد وإعمار الأرض، وتعبيد الناس لله سبحانه وتعالى.

التعلق بالأسباب: فالنصر لا يكون بعدد ولا بعدة، ودرس غزوة حنين يجب أن يظل حاضراً أمام أعيننا دائماً "لن نغلب اليوم عن قلة"، كل المطلوب هو الاتزام بالمنهج والإعداد والأخذ بالأسباب، قل العدد أو كثر، قلت الامكانيات المادية أو كثرت، فليس هذا هو المعيار، وقد ينصر المسلمون بالرعب "نصرت بالرعب مسيرة شهر"، وقد قال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".

الكهنوت: أسوأ ما يمكن أن يحدث للإسلام هو ذلك المفهوم، مفهوم "كهنة المعبد" الذين يملكون مفاتيح العلم وبالتبعية مفاتيح الجنة، بل ومفاتيح الدين نفسه، فهؤلاء "الكهنة" يصنفون الناس من حولهم، فهذا "ليس سلفياً" وهذا "من الخوارج" وهذا "ضال مغرر به" وهذا "في عقيدته دخن"، كل ذلك على المستوى الداخلي، أما على مستوى العامة، فلفظ "العامة" في حد ذاته يستخدم للدلالة على الجهل، واستخدام هذا اللفظ يستتبع استخدام لفظ "الخاصة"، وينتج عن ذلك تكون فئتين في المجتمع، "الخاصة" وهم كهنة المعبد وتلاميذهم، و"العامة" الدهماء الجهلاء الذين ليس لهم إلا أتباع أوامر الكهنة دون علم أو تفكير، وبذلك أصبح "صاحب العلم" أو "طالب العلم" يملك قدراً من الغرور والاستعلاء على بقية الناس، وبدلاً من أن يزيده علمه تواضعاً ورقة يزيده غروراً وتكبراً، فلا يخالط "العامة" ولا يتعامل معهم إلا في أضيق الحدود، وله مجتمعه الخاص الذي يعيش فيه منعزلاً عن بقية المجتمع، ويصبح مقياس الإيمان هو قدر علمك، برغم أن هناك علماء تسعر بهم نار جهنم في الآخرة بنص الحديث النبوي.

وقد يحل الدين في شخص "الكاهن" – معذرة لا استطيع أن استخدم لفظ عالم أو شيخ – ويصبح له تلاميذه من حوله الذين يقدسون كلامه وياخذونه دون مناقشة، بل وأحياناً يؤلون الآيات والأحاديث التي وردت في أمر ما لتتفق مع كلام "الكاهن"، ويترتب على ذلك أن يكون الولاء والبراء على الشخص بدلاً من المنهج، وأن اختلافك مع هذا الشخص هو دليل على جهلك والفساد في عقيدتك، حتى لو كنت تستدل في كلامك بآيات وأحاديث قرآنية، فأنت بالتأكيد شخص جاهل مغرر بك أو مؤول خبيث. بل ويمتد ذلك إلى "الملتزمين" الآخرين، فالشيخ "فلان" هو شيخ ضال وعلى خطأ دائماً فلا تأخذ عنه العلم، وتلاميذه هم الضلال بعينه فلا تخالطهم، وتكون المقولة المأثورة "قل لي من شيخك أقل لك من أنت"، وهو نفس أسلوب المادي للأجهزة الأمنية "الطاغوتية" في تصنيف الناس وقولبتهم، والشخص الذي لا يلتزم بمعلم أو شيخ معين لا ياخذ إلا عنه فهو شخص معيب و"لا شيخ له".

وليس ضرورياً أن يحل الدين أو المنهج في شخص، بل قد يحل في "حزب" أو "جماعة" أو "تيار" ولكن في النهاية يمكننا أن نحدد مجموعة من الأشخاص هم من يمثلون الدين على الأرض، وهي نفس النتيجة.

السلطوية: وهو مفهوم مرتبط بفهوم "الكهنوت"، فالشخص المصاب بهذا المرض دائماً ما تكون الحلول التي يقدمها لأي مشكلة حلولاً سلطوية، فالمنع والحجب والقمع والقوة دائماً الحل الأفضل، في حين أن هناك الكثر من القضايا يمكن معاجلتها بالرفق واللين، والأمثلة في السيرة النبوية كثيرة جداً.

أصحاب هذه الفكرة لا يختلفون عن أي ديكتاتور سفاح، ولديهم من الحجج والمبررات دائماُ ما يقوي موقفهم، ويرون دائماً ان مواقفهم تمثل الدين، لا تمثل اجتهاداً يمكن أن يخطئ ويصيب.

احتكار الحق: "فمن يختلف معي فهو على خطأ بالتأكيد، فأنا الصواب وأنا الذي امثل الحق والفهم الصحيح للدين"، وهو من نتائج الاغترار بالعلم والتحزب لفئة معينة، يضاف إلى ذلك عدم استساغة الاختلاف في فهم النص وفي تطبيقه.

الاختزال: تحويل الدين إلى مظهر، فاللحية والقميص والجلباب المقصر والنقاب والسواك هما أساس الحكم على مدى إيمان الشخص وتدينه، وهي أمور برغم أهميتها إلا انها ليست الدليل على قوة الإيمان، فالإيمان ليس كياناً مادياً ثابتاً، وليس رصيداً في البنك، بل هو يزيد وينقص بحسب حالة الشخص. ولكن اختزال الدين في "طقوس" معينة واعتبار من لا يفعل ذلك شخص "ضال" أو "ناقص الإيمان" يعتبر نوع من أنواع علمنة الدين، وأكرر ثانية أن هذا لا يعني رفضي لتلك المظاهر، بل انتقادي منصب في الأساس على اعتمادها كأساس للدين.

الكراهية المقدسة: حالة الاستعلاء بالعلم والاحتقار للأخرين ليس لها إلا نتيجة واحدة، وهي تكون طاقة كبيرة من الكراهية يجب أن توجه في اتجاه ما، وتكون هذه الكراهية هي المحرك الأساسي للأشخاص، يجب أن يكون هناك "آخر"، هذا الآخر نحمل له كل الكراهية والبغض، والرغبة في قتله وسفك دمه، هذا الآخر يختلف حسب الزمان والمكان والظروف التاريخية والسياسية، فتارة يكون "الكفار" وتارة "النصارى" وتارة "اليهود" وتارة "الشيعة"... إلخ
هؤلاء عندما يفكرون بتلك الطريقة المادية يغيب عنهم أمر هام جداً، أن هذا الآخر من الممكن أي يهتدي فجأة، ويصبح أخاً لنا، ومن الممكن أيضاً أن يتحول "أخ" إلى "آخر"، فما العمل في ذلك الوقت؟

نحن نكره الكافر لكفره وليس لشخصه، فإن آمن وتاب وأصلح فهو أخ لنا، وفي النهاية النفس البشرية مكرمة وغالية، واذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرت امامه جنازة ليهودي فقام لها احتراماً فتساءل الصحابة عن ذلك فقال لهم "أليست نفسا"، وأذكر أيضا عندما دمعت عينيه صلى الله عليه وسلم عندما مرت جنازة اخرى وقال: "نفس تفلتت مني إلى النار"، فالإسلام بعث رحمة "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ورسالة الأمة أن تقوم بدعوة الناس كافة إلى التوحيد، وتحرص كل الحرص على هدايتهم  إلى الحق "لأن يهدي الله بك رجلاُ خير لك من حمر النعم"، فالكراهية هنا يجب أن توجه لمفهوم الكفر، والطاقة المحركة للإنسان ليست كراهيته للناس، بل إيمانه ورغبه في هداية الآخرين للحق.

مصلحة الدعوة: هذا المفهوم للأسف يتم استخدامه أسوأ استخدام، عندما تتجسد الدعوة في مجموعة من الناس (أو في شيخ) ويصبح التهديد لوجود هذه المجموعة تهديد لوجود الدعوة، وكأن الدعوة لا تقوم إلا بهؤلاء، وكأن  مطلوب دائماً من الدعاة أن يحافظوا على سلامتهم ويقدموا الكثير من التضحيات على حساب المنهج حفاظاً على مصلحتهم (التي هي مصلحة الدعوة من وجهة نظرهم)، والحقيقة أن هذا الأمر لا يستقيم مع المنهج في الأساس، فصاحب الدعوة معرض دائما للإيذاء والابتلاء، ومصلحة الدعوة تكون في صبره على هذا الابتلاء وصموده ضد التهديد والإيذاء، وأحياناً يكون موته في سبيل دعوته مصلحة للدعوة، ولنا في قصة الغلام في قصة أصحاب الأخدود أكبر مثال. فمصلحة الدعوة قد ترتبط أحياناً بمصلحة الداعية واحياناً اخرى تتضاد معها, ولكن هذا المفهوم يغيب للأسف بسبب تجسد الدعوة في أشخاص كما قلت سابقاً.

طبعاً يدخل في ذلك الأمر الكثير من سوء الاستدلال بالآيات والأحاديث وبعض مواقف السيرة، واسقاطها في غير مواضعها، والحديث عن حساب المصالح والمفاسد وحقن الدماء، والكثير من أقوال الحق الذي يراد به باطل.

ثنائية(المؤامرة/ الاضطهاد): وهي حالة متقدمة من البارانويا (جنون الاضطهاد) تتلخص في "كل شيء يحدث هو مؤامرة دنيئة تهدف للقضاء علي وعلى منهجي، وكل الأطراف تتآمر علي ليل نهار، كلهم خونة"، ولا أنفي هنا فكرة التآمر، أو فكرة أن دعوة الإسلام تحارب من أطراف متعددة، ولكن اختزال الظروف المحيطة في شكل مؤامرة، وعدم القدرة على فهم الواقع المركب، وعدم تناول هذه الظروف بالفهم والتحليل وفهم الدوافع والأسباب والنتائج تزيد من العزلة وتقوي حالة الشعور بالاضطهاد، وتدفع صاحب هذا العرض إلى اتخاذ قرارات وردود أفعال غير متزنة يخسر بها الكثيرين من المحيطين، وتدفعه إيضاً إلى عدم الاعتراف بأخطائه وتبريرها، فهو دائماُ ما يكون "مضطراً لهذا"، ودائماً ما يكون عصبياً ومتشنجاُ لأنه يرى أن الكل ضده، في حين أنه لو حاول الخروج من هذه الثنائية وحاول أن يفهم الواقع حوله ويفككه يمكنه أن يتفهم الكثير من المواقف حوله، ويمكنه أن يلتمس الأعذار، ويمكنه أن يعامل الناس بحسب قدراتهم وطاقاتهم، وعندها يكون أكثر قدرة لتفتيت التحالفات والمؤامرات الحقيقية التي تحاك حوله، ويكون اكثر قوة وصلابة وصموداً.

17‏/04‏/2013

الخطوات النهائية لاحتواء الثورة في سوريا


عامين مرا على الثورة في سوريا، لم استطع فيهما كتابة أي شيء عنها،اعترف أنني حاولت اكثر من مرة ولكن كانت محاولاتي تنتهي بالفشل دائما، ربما لو كنتأديبا أو شاعرا لاستطعت أن أعبر عما في داخلي وعما أشعر به، ولكني لم استطع.

ما دعاني للكتابة هذه المرة عن الثورة في سوريا هو اقتراب سقوط بشارالأسد، وبداية دخول مرحلة جديدة وهي مرحلة ما بعد بشار، وهي التي يستعد لها كل الأطراف، والتي سوف تشهد صراعاً حقيقياً على الأرض، ولكن قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الصراع، فيجب أن نلقي نظرة على الوضع العام في الأمة العربية، فقد نجحت أمريكا (والنظام العالمي) في احتواء الثورات العربية في كل من مصر واليمن وتونس وليبيا، عن طريق فصلهم كل على حدة ثم تثبيت أنظمة يسهل التفاهم معها أو ترويضها، فالنظام الموجود في ليبيا على قدر كبير من التوافق مع أمريكا وأوروبا بسبب تدخل حلف الناتو في انهاء الصراع، بينما في اليمن تم استيعاب الثورة وتولى نائب الرئيس، وهو السيناريو الذي لم ينجح في مصر أو تونس، فوصل الاخوان المسلمون وحركة النهضة إلى الحكم في كلا البلدين، أو ما يمكن أن نسميه بالمدرسة الإصلاحية الإسلامية، ودون الدخول في تفاصيل معقدة يكفي أن نقول أن أمريكا تمتلك الأدوات القادرة على استيعاب هذه المدرسة وتذويبها في النظام العالمي والضغط عليها وترويضها، وهو ما يتم بشكل أو بآخر في الوقت الحالي عن طريق بعض أطراف المعارضة وعن طريق القوة العسكرية للجيوش، ربما في مقال لاحق يمكننا أن نحاول معاً تفكيك التكتيكات التي تم اتباعها لاستيعاب الثورات العربية بالتفصيل الممل، وكيف تم ضبط الإيقاع بشكل متزامن في أغلب هذه الأقطار، ولكن الآن فقط نحاول أن نرى المشهد العام.

لماذا تأخر الحسم كل هذا الوقت في سوريا؟ المشكلة الأساسية في سوريا هي عدم وجود بديل لنظام بشار يسهل التفاهم معه أو ترويضه، والمشكلة الأخرى هي وجود طرف لا يقبل بسقوط بشار بأي ثمن (ايران)، وطرف آخر (روسيا والصين) يرى أن ما يحدث في سوريا هو صراع بينه وبين أمريكا على مناطق النفوذ، العامل الأول - عدم وجود بديل- كان سبباً في بطء ردود الأفعال الأمريكية والأوروبية، وذلك لحين تكوين"رأس" أو قيادة للثورة تتمتع بقبول شعبي وفي نفس الوقت يمكن التفاوض معها واخضاعها، وأيضاً في عنف نظام بشار الشديد واشتداد المعارك تدمير لجزء كبير من البنى التحتية في سوريا، يجعل من نظام بشار - إن نجا -  لا يشكل أي مقاومة أو اعتراض، ويجعل من قوى الثورة – اذا استلمت السلطة – في حاجة للدعم الاقتصادي وإعادة الإعمار، وكذلك تنشغل بمشاكلها الداخلية مما يحفظ أمن الكيان الصهيوني، وهو ما يدفع أمريكا وأروربا للسكوت عن الدعم الإيراني/ الروسي/الصيني المادي والعسكري – كما ذكرت في السابق - لإطالة عمر النظام قليلاً لحين ايجاد قيادة بديلة، ولانهاك البلاد من حيث البنية التحتية والاقتصاد.

العامل الثاني – الموقف الإيراني الروسي الصيني - كان مانعاً يحول بين التدخل العسكري لحلف الناتو وحسم الأمور بمنتهى السرعة، فأي تدخل عسكري أجنبي في سوريا قد يؤدي إلى حرب إقليمية تدخل فيها أطراف كثيرة، وقد يؤدي إلى حالة رهيبة جداً من الفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها.

للأسف تم استخدام الاخوان في مصر كأحد أدوات احتواء الثورة في سوريا، وذلك بعد أن تم استخدام المجلس العسكري في احتواء الثورة في ليبيا، فمصر الثورة كان من المفترض أن تخصص جزء كبير من اهتمامها لدعم الثورات العربية الأخرى، على الأقل سياسيا، ولكن للأسف لم يحدث ذلك لعوامل كثيرة، أهمها انشغال الاخوان في الداخل في الأزمات السياسية والاقتصادية المتتالية (بعضها بفعل فاعل والبعض الآخر بسبب أخطائهم)، وأيضاً عدم رغبتهم في التصادم مع المصالح الأمريكية في المنطقة لحين ثتبيت أرجلهم في النظام. طبعا لن اتكلم هنا عن السعودية وقطر والإمارات والأردن الذين هما الأذرع السياسية والاقتصادية والأمنية لأمريكا في احتواء الثورات العربية لأن دورهم واضح جداً ولا جدال فيه، ولأنهم في الأساس أنظمة عميلة للغرب، وطبعا لايمكننا أن ننسى الدور التركي – فهو دور محوري جداً – وهو التحكم في كميات السلاح وأعداد المقاتلين الداخلة إلى سوريا، وذلك بعد أن تحولت إلى قبلة للشباب المجاهد المتحمس من كل أقطار العالم الإسلامي.

نعود مرة أخرى للمشهد في سورياً، فبعد أن أخذت الثورة في سوريا الطابع المسلح – وهو أمر طبيعي بعد أشهر عديدة من المذابح في ظل الصمت العربي والدولي-وبعد محاولات متكررة لإيجاد قيادة للفصائل المقاتلة تحت اسم جيش الحر، لم تستطع أمريكا وأذرعها من الأنظمة الموالية إيجاد هذه القيادة، وذلك لأن هذه الفصائل – أو الكتائب – تعمل بشكل لا مركزي، بعضهم قد انفصل عن الجيش النظامي، وبعضهم تكون من المدنيين المتضررين، لا تجمعهم قيادة مركزية موحدة، فقط يجمعهم اسم "الجيش السوري الحر"، ومع الوقت تمايزت هذه الفصائل، بعضها اتحد سوياً ليكون"ألوية" تحت نفس الاسم، ومع مرور الوقت أكثر ظهرت بعض الرايات الأخرى التي تحمل طابعاً "جهادياً" مثل كتائب أحرار الشام – التي اندمجت فيمابعد داخل الجبهة الإسلامية السورية - وجبهة النصرة لأهل الشام (وهي الأكثر"راديكالية" والأكثر تدريباً وتفوقاً في المعارك)، وذلك مع استمرار وجود بعض الكتائب التي تحمل طابعاً جهادياً داخل الجيش الحر بتكوينه اللامركزي.

ماذا يحدث في المرحلة الحالية؟
على جانب أمريكا والأنظمة العميلة: فبعد محاولات عديدة لايجاد قيادة –عسكرية وسياسية – للثورة، أصبح هناك قائداً عسكرياً (رياض الأسعد) وأصبح هناكممثلاً سياسياً (الائتلاف السوري المعارض) وتم تصدير "معاذ الخطيب" رئيساً لهذا الائتلاف، وهو رجل يبدو "اسلامياً" في سمته وفي لغته، واعترفت جامعة الدول العربية بهذا الائتلاف ممثلا عن سورياً موخراً، وجلس معاذ الخطيب على مقعد سوريا في الجامعة في 27 مارس 2013، أما من الناحية العسكرية، فهناك ضرورة قصوى للسيطرة على القوات المقاتلة على الأرض، فعلى ما يبدو وعلى حسب المعلومات المتوافرة، يجري اعداد الكتائب المدعومة من الحلف الأمريكي (أمريكا – قطر –السعودية - الأردن) على قدم وساق للمعركة الحاسمة ضد الكتائب الإسلامية التي تشكل خطورة، وفصل هذه الكتائب عن بقية الكتائب المقاتلة فكان القرار الأول هو وضع جبهة النصرة وكتائب أحرار الشام على قوائم الإرهاب الأمريكية، وهناك أسلحة نوعية تدخل –عن طريق الأردن - في مخازن سرية، وأموال طائلة يتم تحضيرها لدعم المعركة – من السعودية وقطر، وعلى الناحية المخابراتية، فتقوم الكثير من أجهزة المخابرات العربية، وتحديداً السعودية والأردنية وربما المصرية أيضاً بجمع المعلومات عن العناصر والقيادات لاستهدافهم في الوقت المناسب، ثم تأتي المرحلة الختامية، وهي مرحلة تغيير الوجوه، في محاولة اغتيال "رياض الأسعد" بسبب موقفه من جبهة النصرة، وتعيين وجه جديد كرئيس للحكومة الانتقالية التابعة للائتلاف "غسان هيتو" وهو مواطن أمريكي بالمعنى الحرفي، مع الابقاء على معاذ الخطيب – بعد تهميش دوره –لاستخدامه كواجهة إسلامية معتدلة لجذب واستيعاب المجموعات الإسلامية الصغيرة التي لا تتفق مع فكر "القاعدة"، خصوصاً وأن الكثير من مؤيديه يلقبونه بالشيخ، مع التخلص منه في الوقت المناسب فيما بعد عند انتهاء دوره.

ما هو المتوقع أن يحدث بعد ذلك؟ من المتوقع في الأيام القادمة حدوث صراعات على مناطق النفوذ للسيطرة على أكبر مساحة من الأرض قبل سقوط النظام، وذلك بين الكتائب المدعومة أمريكياً والكتائب المعادية للمشروع الأمريكي، وبعد أن تتم السيطرة على أغلب المناطق الهامة استراتيجياً، تحدث المعركة النهائية لاسقاط النظام (الساقط أساساً)، وربما تتم بشكل "هوليودي" استعراضي، ويظهر للناس أن النظام قد سقط وأن عهد الحرية قد بدأ، ثم يفاجأ الناس بمعارك ضارية بين الفصائل المحاربة لبشار، ويتم اعلامياً اظهار الكتائب المعارضة للهيمنة الأمريكية بأنهم مخربين، واستدعاء الصورة الذهنية لتنظيم القاعدة "الإرهابي الشرير"، ويتدخل السي آي إيه وأجهزة المخابرات العربية لتصفية العناصر الخطرة لتقصير المعركة، ثم بعد ذلك يتم اخضاع كل الفصائل المحاربة لنظام بشار تحت قيادة النظام الجديد، وتقوم الأنظمة العربية بمحاصرة كل المقاتلين الهاربين وتصفيتهم حتى لا تتكون بؤرة أخرى للجهاد في المنطقة. ويبدأ عهد اعادة الاعمار والشركات الرأسمالية الكبرى، ويكون أكبر انجاز حققته الثورة هو "الديمقراطية الأمريكية الزائفة"، وسوف يكون ذلك للأسف باستخدام اخوان سوريا.

أما عن جانب المشروع المقاوم للهيمنة الأمريكية الصهيونية، وهو يتمثل في جبهة النصرة وبعض الفصائل الأخرى، فلا تظهر استراتيجية واضحة لهم، وربما لديهم ما يخبئونه للمستقبل، ولكن على ما يبدو أن هناك قدراً من التعاون والتنسيق مع"دولة العراق الإسلامية"، وإن كانت الأخيرة تبدو متخبطة في بعض قراراتها، وخصوصاً القرار الأخير بإعلان توحيد الجبهتين في العراق وسوريا في كيان واحد، بل ودولة أيضاً، وهو تكرار للخطأ في العراق، ولكن يبدو أن القيادات في سوريا تتمتع بقدر من الوعي السياسي والحركي، فسارعت إلى نفي هذا القرار، ولكنها اكدت على وحدة الفكرة في مقابل انفصال التنظيم، وهي خطوة جيدة في وجهة نظري. ولكن حتى الآن لا أعرف ماهي استراتيجية جبهة النصرة، وكيف ترى المرحلة القادمة، وكيف ستواجه اطرافاً متعددة (عسكرية وسياسية ومخابراتية).

إن نجاح أمريكا والنظام العالمي في احتواء الثورة في سوريا سيكون ختاماً لاحتواء الثورات العربية جميعاً، وإطالة في عمر النظام العالمي المنهار، ربما لبضعة عقود إضافية، هذا بالحسابات المادية، ولكن من يدري، لعل الله يحدث أمراً.

ملحوظة أخيرة: هذا المقال بناء على ما لدي من معلومات ومحاولتي لقراءة الواقع من خلالها، لذا فهو يحتمل الخطأ والصواب، بعض هذه المعلومات مما توافر عن طريق التقارير الصحفية، والبعض الآخر مما هو قادم من الأرض في سوريا. وهذه روابط لبعض التقارير والفيديوهات التي قد تدعم تحليلي:

تدفق أسلحة ثقيلة عبر الحدود الأردنية إلى قوى معتدلة في الجيش الحر -تصل بسرية عالية وتذهب لمجموعات بعينها لإضعاف شوكة «النصرة»

أميركا تراقب "متطرفي" سوريا لضربهم

الاخوان المسلمين يتعهدون لروسيا بدولة غير اسلامية

لهذا السبب امريكا و الغرب لا يرغبون بدعم ثورة سوريا

كلمة معاذ الخطيب في مؤتمر  "الإسلام والعدالة الإنتقالية في سوريا" والذي رفض فيه فكر القاعدة وجبهة النصرة ضمنياً

"الجيش الحر": لا علاقة للحر بجبهة النصرة، وادراجها او عدم ادراجها بلائحة الارهاب تهرب من حماية السوريين

21‏/12‏/2012

خطوات على طريق تحرير الوعي



يتعرض وعينا يوميا للتزيف والتوجيه والسيطرة من قبل كل ما يعرض في وسائل الإعلام من نشرات اخبارية وبرامج وأفلام ومسلسلات، هدفها تشكيل الوعي وترسيخ مفاهيم معينة لدى الناس، ويزرع في وعينا الكثير من الأفكار المادية الاستهلاكية، ويغرس فيه صورا وقوالب، وتستخدم كلمات لها دلالات معيننة في اذهاننا، وأحاول هنا أن استعرض كيف يتم تزييف وعينا وأن أضع بعض القواعد اللازمة لتحرير هذا الوعي.

القاعدة الأولى: تحطيم الأصنام، فنتيجة الجهل والتعصب قد ابتلينا بمرض "تصنيم" الأشخاص، وإضفاء القداسة على أفكارهم وتصرفاتهم، واختلاق المبررات والأسباب لها لو تعارضت مع العرف أو المبادئ أو الأخلاق، وهذا الأمر لا يقتصر على الأشخاص فقط، بل يمتد إلى بعض الحركات والجماعات والأحزاب.

 وتحطيم الأصنام يقصد به أمرين، الأول: هو نزع القداسة عن الأشخاص والتنظيمات، وتنازل مواقفهم وتصرفاتهم بموضوعية، فكل يخطئ ويصيب، وهناك قول منسوب للإمام مالك مضمونه أن "كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم" ، والثاني: تحرير الفكرة من الشخص أو التنظيم، وقد حذر الله تعالى في القرآن الكريم من فكرة ارتباط الفكرة بالشخص - حتى لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ"، وكذلك قال سيدنا أبي بكر رضي الله عنه عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فجع الناس: "من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وكذلك قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال"، وتحرير الفكرة من الأشخاص/ التنظيمات تعني انها لا تموت بموت الشخص/ التنظيم،  ولا تتأثر بأخطائهم أو انحرافهم عن طريق الحق.

هذا بالتأكيد لا ينفي وجود الرمز أو القدوة، والتي تتمتع بالاحترام والمصداقية بين الناس، وتشكل النخبة الفاعلة الحقيقية، التي تمثل البوصلة بالنسبة للرأي العام، ولكن علينا أن ندرك الفارق البسيط بين الاحترام والتقديس، وألا نتخطاه.

القاعدة الثانية: لا يوجد إعلام محايد، لا يوجد إعلام غير موجه. 

الإعلام قد تحول لسلعة أو منتج يستحق التسويق ، ومن يملك كبرى القنوات الشبكات الإعلامية هم من رجال الأعمال الذين يهتمون بالحفاظ على مصالحهم، التي تبدأ بالترويج لسلعهم ومنتجاتهم، مرورا بالحفاظ على الثقافة الاستهلاكية، وانتهاء بالحفاظ على مقومات الظام الرأسمالي العالمي، ما يتحكم في الإعلام هو توجهات ملاكه، والربح المتحقق نتيجة الاعلانات، وهذا يتطلب أمرين: الأول: الاهتمام بالأخبار "الساخنة" والموضوعات التي تحقق نسبة مشاهدة عالية، مثل أخبار المشاهير ونجوم الفن والكرة، والفضائح، وكل ما يمكن أن يجذب انتباه المشاهد ولو للحظات يساهم فيها بارتفاع نسبة المشاهدة وبالتالي ارتفاع أرباح الإعلانات، فكلما كان الموضوع المتناول غريبا وصادما ويثير الجدل كلما كان ذلك أفضل، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فتطور الأمر ليشمل شريحة جديدة من المشاهدين، فهناك مشاهدين يهتمون بالأخبار السياسية، وهناك من يهتمون بالبرامج الدينية، وهناك من يهتم ببرامج "الطبخ" و"الموضة"، لذلك كان من الواجب الاهتمام بجذب هؤلاء المشاهدين، مع عدم "الإخلال" بمبادئ الرأسمالية، فأصبحت البرامج الدينية ساحات للجدال والصراع بين الشيوخ والدعاة، وأًصبح البعض الآخر مكانا للفتاوى "الغريبة" و"الشاذة" و"الصادمة"، ولا مانع في بعض الأحيان من استضافة "نجوم" المشايخ والدعاة والوعاظ في حلقات "محترمة" تخلو من الإثارة من هذا النوع، ولكنها تمتلي برسائل الـ"SMS" والفواصل الإعلانية.

حتى البرامج التي من المفترض أنها تحمل "رسالة أخلاقية" وتتناول الجرائم وتحللها، أصبح كل همها أن تتناول الجرائم الغريبة وغير المعتادة، مثل شخص قام بتمزيق أسرة كاملة، أو شخص قتل أبوه أو أمه أو ابنه أو ابنته، أو آخر قام بقتل طفلة صغيرة بعد أن اعتدى عليها، كل هذا في اطار من "الإثارة"، هذا بالإضافة للبرامج الحوارية السياسية أو ما تسمى بالـ"talk show”، والتي هدفها بالأساس توجيه وعي الناس في اتجاه معين وتستخدم في ذلك كل الأساليب المتاحة التي سوف أفصلها في بقية المقال، برغم أنني كنت أنوي تخصيص موضوع منفصل لتحليل الخطاب الإعلامي، وكيف نفهمه، ولكني أجد أنه من الضروري التوقف عند هذه النقاط، مع ضرورة التوضيح أن الآتي هو اجتهاد شخصي نابع من الملاحظات اليومية.

كيف يزيف الاعلام الحقائق:
 
- التركيز على حدث صغير وخلق حالة من الزخم والجدل حوله، وأحيانا يكون التركيز على خبر أو معلومة على حساب معلومة أخرى، مثل الاهتمام بحدث فني أو سياسي أو حادث يموت فيه بضع أشخاص على حساب حدث أكبر له وقع وتأثير كبير، لأنه لا يخدم توجهات القائمين على الإعلام.

- قلب الحقائق عن طريق اظهار جزء من الصورة واخفاء الجزء الآخر، وتضخيم الجزء المراد اظهاره والتهويل من حجمه، وأهمال الجزء المراد اخفائه والتقليل من شأنه.

- تضييع الحقيقة عن طريق عرض الآراء المتناقضة بدعوى الرأي والرأي الآخر، فيصاب المتلقي بحالة من "التوهان"، عندها يكون جاهزا لتلقي "الكبسولة" اللازمة للسيطرة على وعيه.

- تمييع الثوابت والتركيز على نسبيتها، والتشكيك في كل مصادر المعلومات الأخرى، والتركيز على فكرة المصداقية واكتساب الثقة لدى المشاهد أو المستمع أو القارئ.

- تحطيم الرموز، وهذا يختلف بالتأكيد عن قاعدة "تحطيم الأصنام" التي ذكرتها في بداية المقال، فكل مجتمع به شخصيات عامة في كل المجالات وبعضهم يصلح كرمز أو كقدوة، أو كشخص معتبر يتمتع بالاحترام بين الناس، أو بعض الأشخاص الذين يتكلمون بلسان حال المواطنين البسطاء ولهم قدر من الشعبية، فكل هؤلاء يجب تحطيمهم أو احتواءهم، إما بالبحث عن ثغرات في حياتهم، أو صناعتها إن لزم الأمر، أو ضرب مصداقيتهم وإبراز التناقض بين قولهم وفعلهم، بالحق أو بالباطل، أو احتوائهم إن فشل كل هذا عن طريق استضافتهم بكثرة في البرامج أو أن يكون لهذا الشخص برنامجا خاصا ليقدمه، ومع الوقت ومع كثرة الظهور لن يجد ما تحدث فيه وسوف يعتاد الناس ظهوره ويملونه ، و"من كثر كلامه كثر خطؤه".

- صناعة رموز جديدة تتمتع بالقبول والمصداقية، وظهورها بكثرة مع اعتمادها كمصادر للمعلومات والرؤية والتحليل.

- غرس الصورة الذهنية التي يسهل استدعاؤها، فمثلا في التسعينيات كان ذكر كلمة "ارهاب" في مصر لا يستدعي إلى ذهن أغلب الناس سوى صورة شخص ملتح متجهم الوجه يرتدي جلبابا قصيرا، هذه الصورة طبعا تم ترسيخها عن طريق العديد من الأفلام والمسلسلات، ومثال آخر، ذكر كلمة "شريعة" يستدعي على الفور إلى ذهن المستمع صورة ليد مقطوعة.

- القولبة والتصنيف وفرض الاختيارات، فكل شيء جديد أو غير قابل للفهم يتم وضعه في قوالب معدة التجهيز، مع مراعاة أن هذه القوالب لها صورة معينة في ذهن المستمع،  ومن الضروري جدا أن تكون هذه القوالب في شكل ثنائيات،  ووضعك في دائرة الاختيار بين خيارين، فإذا كنت مع "س" فأنت بالتأكيد لست مع "ص" والعكس صحيح، وهذا يخلق حالة من الاستقطاب والاختزال ويلغي وجود أي مواقف مركبة أو حلول وسط، ويكون الهدف من حالة الاستقطاب هذه هو منع الناس من التفكير "خارج الصندوق"، أو ابداع حلول أو مواقف جديدة، لأن يؤدي إلى تحرير الوعي من التصورات المفروضة عليه، بينما هدف الإعلام دائما هو السيطرة على الوعي.

 - المصلحة/ العاطفة: اعتماد منهج مادي في تحليل الأحداث يعتمد على المصلحة، فكل حدث هو لمصلحة طرف ما، حتى لو قام هذا الطرف بتضحية أو بتفضيل مصلحة عامة على مصلحته الخاصة، يتم تفسير هذا التصرف وفق منهج التحليل المادي السابق، ومحاولة إيجاد أي مصلحة تكون هي الدافع، فقد يكون دافع هذا الطرف هو السعي لتجميل صورته، أو يكون لتحقيق مصلحة بعيدة، أو أنه يفعل ذلك لهدف خبيث سيظهر لاحقا، المهم أنه لا يوجد أحد شريف أو سليم النية، كل يعمل لمصلحته، اللهم إلا الأطراف التي يسعى الإعلام لتلميعها وصناعتها، فيتم استخدام خطاب عاطفي للغاية يلغي فكرة المصلحة تماما.

-  استخدام ألفاظ ذات دلالات معينة لتوصيف الخبر أو المعلومة، فمثلا استخدام كلمة "شهداء" يستدعي التعاطف، بينما "استخدام كلمة "قتلى" يلغي هذا التعاطف أو يحيده، وبالتأكيد كلمة "اعتداء" يكون لها دلالة مختلفة تمام عن كلمة "دفاع"، وكذلك كلمتي "إرهاب" و"مقاومة"، كل هذه الألفاظ قد تستخدم لوصف مواقف واحد، وذلك لإبجاد انطباع معين لدى المتلقي.

- ارهاب المصطلح (التعبير مقتبس من د. محمد مورو): مثل كلمة "ارهاب فكري"، "تكفيري"،" تخوين"، "أصولية"، "محاكم تفتيش" مصطلحات مثل هذه تولد شعورا بالنفور في المتلقي، حتى لو لم يكن يعلم معناها، وفي المقابل اضفاء القداسة على مصطلحات أخرى مثل "المدنية"، "العلم"، "التنوير"، "الحداثة"، "حرية التعبير" بحيث تصبح أي محاولة لمناقشة هذه المصطلحات أو وضع تعريف لها هو من قبيل "الهرطقة"، هذا بالطبع يجب أن يكون في اطار الثنائيات المتضادة التي ذكرتها في النقطة السابقة.

- غرس مصطلحات في اللاوعي عن طريق تكرارها بطريقة كبيرة جدا، وهذا يتوقف على الحدث وماهو المصطلح المطلوب غرسه، فمثلا في هذه الأيام يتم  تكرار كلمات مثل "ميليشيات"، "حرب أهلية"،"أخونة"، ويتم الغرس بحيث يمكن استدعاء هذه المصطلحات ذاتيا من المتلقي دون الرجوع للإعلام.

القاعدة الثالثة: تنوع مصادر المعلومات، والتخلص من القولبة والصور الذهنية.

يجب أن تعلم "من" يقول "ماذا" و"لماذا"، فمعرفة مالك "القناة الفضائية" أو "الصحيفة" ومعرفة توجههه أمر ضروري للحكم على المحتوى الاعلامي لما يملكه، وكما ذكرت في السابق أن الاعلام يخصع لتوجهات رأس المال، كذلك معرفة الشخص المتحدث وتاريخه ومواقفه السابقة، تفيد كثيرا في الحكم على ما يقوله الآن وعلى طريقة نقله للحدث، والأهم من ذلك كله، يجب أن نعرف أن طريقة صياغة الخبر تؤثر كثيرا في المتلقي، فالخبر يمكن أن يصاغ بأكثر من طريقة ليعطي انطباعا مختلفا، لذلك فمن الضروري أن تقوم بتلقي الخبر من أكثر من مصدر، حتى تلم بالتفاصيل وحتى لا تؤثر فيك الصياغة، وكل ذلك يأتي بعده تتبع مصدر الخبر، لأن المصدر أيضا عامل أساسي في الحكم على صحته.

القاعدة الرابعة : العزلة الشعورية (التعبير مقتبس من سيد قطب ولكن استخدمه في سياق آخر)، والمقصود بها: لا تجعل عواطفك ومشاعرك هي التي تتحكم في تقييمك للمعلومة، أو تؤثر في بحثك عن صحتها، فأحيانا تتمنى وقوع خبر معين، وعندما تتلقى هذا الخبر تقوم بتصديقه أو بنشره دون أن تتثبت من صحته، مثل خبر عن مقتل "بشار الأسد" أو هروبه، هذا الخبر قد تم تداوله أكثر من مرة، ثم يتضح بعد ذلك أنه خبر غير صحيح، وكذلك العكس صحيح، فقد يقع حدث ما، ويقوم البعض بالمسارعة إلى تكذيبه، لأنه صعب على التصديق أو لأنه خبر مكروه بشدة، ثم يتضح في النهاية أنه صحيح.

القاعدة الخامسة: لا تبن مواقفك على مواقف الآخرين: الكثير من الناس يبنون مواقفهم على مواقف الآخرين، ويَعرفون الحق بالرجال، في حين أن الرجال هم من يُعرَفون بالحق، ففلان أكرهه ولا أطيقه، عندها سوف اتخذ بالضرورة موقف معاكس له دون تردد، وفلان أحبه، فسوف أتخذ موقفه دون تردد، وذلك دون معرفة دوافع هذا أو ذاك التي دعته لاتخاذ ذلك الموقف، ودون التفكير في الموقف ذاته وتحليله، فلربما كان الصواب قد جانب الطرفين، وربما كانت وجهة نظر كل منهم لها وجاهة. لذلك فكل ما عليك هو أن تعرف الحق وتقف بجانبه دوما، ويكون تقييمك للأشخاص ومواقفهم من خلال مدى قربهم أو بعدهم عن الحق. وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "اعرف الحق تعرف أهله".

القاعدة السادسة: التحرر من أي تابوهات أو مسلمات غير منطقية لا تستند على أساس دين أو أخلاق أو قيمي: فكل مسلماتك ومنطلقاتك يجب أن تكون نابعة من أساس ديني أو أخلاقي أو قيمي، ولا تكون نابعة من الأهواء، وهذه النقطة سوف أتعرض لها بالتفصيل في المقال القادم بإذن الله "بناء الوعي" وذلك لأنها الخطوة الأخيرة في "تحرير الوعي" من التزييف والخداع، والخطوة الأولى في "بناء الوعي" الجديد، فهي خطوة مشتركة وحاسمة.


في النهاية لا أقول أن هذه دعوة للشك في كل شيء، بل أقول فكر واعمل عقلك في كل شيء.